عند توقيع حمدوك بالقصر الجمهوري على الاتفاق الذي عاد بموجبه لممارسة عمله كرئيس للوزراء، ظهر في كادر الصورة عدة أشخاص يقفون خلف البرهان قائد الانقلاب، نذكر منهم مبارك الفاضل رئيس حزب الأمة الضرار، ومبارك أردول، والتوم هجو، والناظر ترك، وخميس جلاب، وصاحبنا زمان محمد وداعة من طرف حزب البعث السوداني، وآخرين من قيادات اعتصام القصر بقيادة مناوي، وقد احتار الناس في سبب وسر حضور هذه الشخصيات للحظة التوقيع على الاتفاق، وتساءلوا عن علاقتهم بهذا الاتفاق، وعن دورهم في المرحلة القادمة، وهل تراهم سيشكلون الحاضنة السياسية الجديدة للفترة الانتقالية، وهل يا ترى تماثل حكايتهم حكاية (الراجل الواقف ورا عمر سليمان)، تلك الحكاية المصرية التي طبقت شهرتها الآفاق، بظهور ذاك الرجل واقفا خلف الكتف الايسر للواء عمر سليمان الذي كان يشغل وقتها منصب نائب الرئيس المصري المعزول حسني مبارك، وكان سليمان لحظتها يلقي خطاب تنحي الرئيس المصري السابق حسني مبارك، وكان ذاك الرجل الغامض العابس المتجهم الوجه الذي يقف خلف عمر سليمان هو اللواء حسين كمال الذي كان يعمل في المخابرات العامة ويشغل منصب مدير مكتب اللواء عمر سليمان.. هل يا ترى يكون أولئك الرجال الذين كانوا يقفون خلف البرهان لحظة توقيع حمدوك على الاتفاق، هم بالنسبة للفريق البرهان بمثابة حسين كمال بالنسبة للواء عمر سليمان، يشكلون ظهرا وظهيرا له ومساعدين ومساندين، وهل تراهم أيضا يمثلون الحاضنة السياسية البديلة لحمدوك، يبدو أن أمرهم هو هذا، اذ ليس هناك من سبب يخول لهم دخول القصر الرئاسي وحضور التوقيع دون أهل السودان ونخبه قاطبة غير هذا..
ان الاتفاق السياسي الذي تم توقيعه بين رئيس الوزراء عبدالله حمدوك وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان، بالصيغة التي جاء بها وبالحاضنة التي توفرت له، لن يحل الأزمة التي تسبب فيها الانقلاب بتقديرنا، بل سيبقي البلد في حالة تأزم مستمر، ولا نقول ذلك اعتسافا وانما استنادا على جملة شواهد، اذ لم تكن عملية اطلاق سراح حمدوك واعادته لمنصبه ليست سوى خطوة أولى صغيرة في مسار حل الأزمة، صحيح أن الاتفاق لبى بعض المطالب، الا ان الطريق إلى التحول الديمقراطي ومدنية الدولة لا يزال دونه عقبات و(كلتشات)، كما لا تزال الرؤية حوله بموجب الاتفاق غائمة ومشوشة وغير واضحة وحاسمة، والدليل على ذلك ان الاتفاق ترك العديد من المسائل الأكثر خطورة دون حل واضح واحالها الى المجهول، فكثير من فقرات الاتفاق وبنوده جاءت معممة وهلامية انشائية مما يفتح الباب واسعا للمغالطات عند التداول حول تفصيلاتها، وكما يقال (الشيطان في التفاصيل)، من ذلك مثلا ما ورد في الاتفاق بشأن القصاص للشهداء، من لدن مجزرة فض الاعتصام والى مجازر ما بعد الانقلاب، اذ لم يرد في الاتفاق بشأن هذه القضية عالية الحساسية سوى نص خجول يتحدث عن تكوين لجنة تحقيق، مع ان لجنة نبيل أديب مازالت تراوح مكانها رغم مرور قرابة العامين على تكوينها، وصدق من قال (اذا أردت أن تقتل موضوعا كون له لجنة)، كما ان الاتفاق صمت عن مصير اعضاء مجلس السيادة الذين عينوا بسلطة الانقلاب، وعن أعضاء الحكومة السابقة من الحركات المسلحة وهم لا مستقلين ولا تكنوقراط، وفي سقطة كبرى قفز الاتفاق فوق حق المدنيين لاستلام القيادة في مجلس السيادة الذي يعزز رمزية المدنية، بل والانكى انه أبقى على البرهان رئيساً للمجلس الى نهاية الفترة الانتقالية..