كلما أمعنت التفكير في الواقع السياسي المتردي والأزمات المستعصية التي تعيشها بلادنا على مدى أكثر من نصف قرن وحالة التخلف الاقتصادي والأداء السياسي المتواضع جداً، وعندما أجد الأزمات هي الأزمات والمشكلات هي ذاتها، والقضايا السياسية هي نفسها، والأشخاص هم الأشخاص.. أجد نفسي متيقناً بأن الأسباب الجوهرية تكمن في الطريقة التي تُفكر بها النخب السياسية. فالحقيقة التي لا مراء ولا جدال فيها أن النخب السياسية التي ظلت تسيطر على الملعب السياسي وتتبادل مقاعد الحكومة والمعارضة على مدى نصف قرن من الزمان، ظلوا حبيسي معتقلات صنعوها لأنفسهم، فهم يعتقلون عقولهم في سجن التفكير النمطي، ويغتالون لحظات مخاض العقول الحرة، ويهلكون حرث الخيال الخصب عند المبدعين، هم النخب السياسية التي حكمت وتحكم وستحكم رغم أنف الزمان، لا مجال للإبداع والخلاقية والمبادرات الحرة، ولا مجال لتطبيق نمط الإدارة الحديثة والتفكير الحر.
وخطورة الأمر أن التفكير النخبوي المتخلف يلقي بظلاله على الحياة كلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والثقافية، وفي ظني المتواضع جداً أن أول خطوة نحو بناء أي مشروع نهضوي هي الثورة على طرق التفكير التقليدية، والتحرر من سيطرة القيادات التقليدية والهالة والقداسة التي تحيط بها، وفي رأيي أن التحرر من قيود التفكير التقليدي هو أول عتبة في سُلم بناء الأمجاد، وكم تزداد قناعتي بأنه ما من شيء أقعد بلادنا وأضرها أكثر من التفكير بذهنية العقلين )الأمني( الذي تدار به الأمور حالياً و)الرعوي( الذي سيطر على مقاليد الأمور ومازال في ثنائية مدمرة للحياة… فالسياسة تُدار عندنا بـ )العقلين الرعوي والأمني( والاقتصاد كذلك، والثقافة والفن، ودور الصحف والمؤسسات الإعلامية، والأحزاب الكبرى والمؤسسات العملاقة تُدار بذات العقلية، لا فرق بين إدارة الحزب السياسي )التقليدي( عندنا وإدارة صاحب )بقالة( لمحله التجاري فهو يتحكم فيه بمفرده ويفعل فيه ما يشاء، فإن أراد عمل وإن لم يرد )أغلق( كل شيء حتى عقله وقلبه…. طريقة التفكير التقليدي مازالت تلقي بظلالها على كل شيء وأراها ماثلة أمامي في كل شيء….. للأسف الشديد هذه هي الحقيقة، ليس وهماً ولا نقمة ولا تبرماً … القضية الجوهرية تبدو في كيف نخرج من نمطية التفكير التقليدي إلى آفاق التفكير الحر الذي لا تُحده إلا حدود الحلال والحرام، فلا بد من تخطي كل قوالب التفكير التقليدي، بإعادة النظر في مناهج التعليم التي تضرب بسياج من حديد على عقول التلاميذ وتمنعهم من التحليق في فضاءات أرحب من التفكير الحر.
أكبر معضلة تتراءى لي كلما أمعن التفكير، أن النخب السياسية عندنا أدمنت الركون والاستكانة لقوالب التفكير الجاهزة لتتقي مخاطر المجازفات فترى اللاحق يقلد السابق ولا يخرج من نمط تفكيره، لذلك تتكرر الأزمات وتتشابه طرق الحلول والتفكير… انظروا فقط إلى مشكلة المواصلات المزمنة في العاصمة الخرطوم والتي عايشها المواطن عشرات السنين، فالثابت هو أزمة المواصلات والمتغيِّر هو المسؤولون وحكوماتهم، والسبب الذي جعل المشكلة ثابتة دونما حلول هو أن التفكير في معالجتها لم يخرج من عقلية زيادة )البصات الخردة( أو فتح باب الاستيراد دون التفكير في الحلول المستقبلية… اللهم هذا قسمي في ما أملك.
نبضة أخيرة
ضع نفسك دائماً في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك في كل حين.