صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

لصوص خارج النصوص

11

بشفافية

حيدر المكاشفي

لصوص خارج النصوص

الحدوتة التي جسدتها السينما المصرية في فيلم (يا عزيزي كلنا لصوص)، نسجت احداثها حول عزيز قوم ذُلّ بعد أن فقد المال والجاه وضاعت منه الوسامة والوجاهة بسبب سفاهته وسوء ادارته للتركة التي خلَّفها له والده الباشا الثري، ولم يبق له من أيام العز والنغنغة إلا أصداء ذكريات يحاول اجترارها عبر شيخ الغفر الوفي الذي خدم الاسرة الباشوية بإخلاصٍ وتفانٍ.. يشخط وينتر ويطلب ويأمر ويتشهى والشيخ يجهد نفسه في تحمل الشخط الفشوش، وتنفيذ الاوامر الوهم، عرفاناً وحفظاً لجمائل والد الفتى عليه.. وتمضي الحدوتة لتجمع الشاب الواهم المجروح ببعض لصوص المنازل من مطاريد الجبل، فيعقد معهم حلفاً لتطوير سرقاتهم كماً ونوعاً، هو عليه التفكير وهم التنفيذ، ثم لا يلبث معهم إلا قليلاً حتى يركلهم ويتنكر لهم ويتخلص منهم ليرتقى سلم اللصوصية درجة أعلى لا تناسبها امكانات ولا ادوات وقدرات هؤلاء المطاريد البدائية، وظل يتنقل في مدارج السرقة من نجاح الى نجاح حتى كاد يبلغ عرشها، إلا ان امكاناته هو الآخر لم تكن تؤهله لتخطي المقام الذي بلغه، لينتهى البطل عند هذا الحد، وكان هدف هذا الفيلم -الذي وإن كنت لا ادري ان كانت وقائعه مستمدة من تفاصيل قصة واقعية، إلا انني أجزم بانها جسَّدت وعكست جانباً من واقع الحياة المصرية حينها- هو ان السرقات التي قد تنجحون في القبض على مرتكبيها أو ينجحون هم في الافلات منكم لا تبدأ وتنتهي بهؤلاء اللصوص، فللسرقة مقامات ودرجات ودوائر وشبكات وكل حرامي ميسَّر لما يقدر عليه منها.
ومناسبة ايرادنا لهذه الحدوتة المصرية، أن اجتثاث الفساد وقطع دابره واسترداد كل الأموال المنهوبة، يشكل واحدا من أهم مطالب الثورة ومن أكبر التحديات التي ستواجه الحكومة المرتقبة، خاصة وأن ما تم كشفه حتى الان لم يتعد شوية أموال ضبطت بمنزل الرئيس المخلوع لا تسوى نقطة في محيط الفساد الهادر، فاللصوصية درجات ومقامات وشبكات، منها الظاهر البسيط الذي يسهل كشفه، ومنها الغويط الغميس الذي يحتاج كشفه لمجهود مضاعف، ولهذا لا يجب الركون فقط لتقارير المراجعة العامة التي لا تحدثنا كل عام إلا عن النوع الأول الاكثر تواضعاً من بين المستويات الاخرى الاذكى والأحرف والاحوط، التي تتقاصر عن كشفها وسائل وآليات المراجعة العامة بكشفها لسرقات من الدرجة الثالثة والرابعة، بينما تظل في منأى ومأمن عنها سرقات من الدرجات العليا والوزن الثقيل، فلا المختلس الذي تكشفه التقارير هو اللص الوحيد ولا الجهة التي يعمل بها هي المكان الأوحد لممارسة اللصوصية. فالذي يترك الثغرات التي يتسلل منها المختلسون هو لص أيضاً، والجهة التي ينبغي ان تردع المختلس بما يجعل غيره يتردد ألف مرة قبل الإقدام على اختلاس جنيه واحد ولا تفعل ذلك هي شريك في الجرم، والمبدد الذي يسئ التصرف في المال العام ويصرفه في امور انصرافية لص، والذي يسئ ادارة ما اؤتمن عليه من مال الشعب لص، والذي يسخِّر أملاك الشعب من منقولات ومتحركات وعقارات لغير خدمة الشعب لص، والذي يفصِّل العطاءات والمناقصات العامة على مقاس من يحبهم ويرضى عنهم لص، والذي يتحصل رسوم بغير قانون لص، والذي يجبي الجبايات بغير أرانيكها الرسمية لص، والذي ينفذ أي مشروع دون دراسة ويعهد بتنفيذه الى غير المؤهلين له فينهار المشروع أو يفشل لص يسرق حق الكفاءات الأكثر تأهيلاً، والذي يقوم بأي عمل باسم الشعب وتحت دعاوى الصالح العام ثم لا يحس الناس له أثراً أو فائدة عامة لص. كل هؤلاء لصوص لا تحدثنا عنهم نصوص تقارير المراجعة لابد أن تطالهم عمليات الكشف والمحاسبة..

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد