ما تزال حتى لحظة كتابة هذا العمود منتصف نهار الأمس، الخمسة عشر موقعاً اليكترونياً محجوبة عن البث والنشر، كما لا تزال الجهة الآمرة بالحجب مجهولة أو بالأصح متسترة على فعلتها وجبنت عن أن تكشف عن نفسها، وفي هذا دلالة على أن ما فعلته شيئاً مشيناً تخشى من الجهر به واعلانه رسمياً، غير أن بعض المعلومات كشفت عن استلام شركات الاتصالات لخطابات حوت توجيهات بحجب (32) موقعاً الكترونياً صادرة من نيابة جرائم المعلوماتية في التاسع و العشرين من يونيو المنصرف، وبناء على هذه المعلومات فان المسؤولية المباشرة لقرار الحجب تتحمله نيابة جرائم المعلوماتية، وبفعلتها هذه تكون هذه النيابة قد خرقت أسس العدالة فأصدرت عقوبة على هذه المواقع ليست من حقها ولا اختصاصها، فاصدار العقوبات من حق المحاكم وليس النيابات، واذا كانت للنيابة قضية ضد هذه المواقع ولديها حيثيات وأدلة تدين هذه المواقع كان عليها رفعها للمحكمة المختصة باعتبارها صاحبة القول الفصل..هذا من جهة خطل وعوار وعيب ما اقترفته نيابة جرائم المعلوماتية..
ومن الجهة الأخرى فان هذه النيابة بحظرها وحجبها لهذه المواقع، تكون قد جلبت على نفسها غير ما كانت تهدف اليه من الحجب، حيث تعرضت لوابل من الانتقادات والهجومات بينما كسبت تلك المواقع تعاطف الوسط الصحفي والاعلامي والرأي العام بعامة، فالمعروف أن الممنوع مرغوب والمحظور يثير الفضول، والمرء حريص على ما منع وتواق إلى ما لم ينل، ويقال أيضا لو أُمر الناس بالجوع لصبروا ولكن لو نهوا عن تفتيت البعر لرغبوا فيه، ويمكن أن نمضي في نسج الأقوال والقواعد الذهبية على هذا المنوال إلى أن نبلغ بها مقام سيدنا آدم عليه السلام أبو البشر الذي لم يمتنع عن الشجرة التي نهي عنها رغم وجود العديد من الأشجار المغنية عنها.. ولهذا يعجز المرء عن فهم ما رمى إليه قرار الحجب، فاذا كانت هناك مخالفات وانتهاكات وقعت فيها هذه المواقع فالصحيح ان تتحرى معها النيابة أولا ثم من بعد ذلك تقديمها للمحاكمة ليفصل القضاء بشأنها لا ان تكون النيابة هي الخصم والحكم، فالأعدل والأصوب هو عدم المساس بحرية النشر مع محاسبة من يقع في المحظور، كما أنه ليس من العدل ولا من المنطق أن يقمع حق التعبير والنشر بلا تهم محددة ولا محاكمة ولا قانون، بل هكذا بقانون (كجمناكم كجم)..ورغم ذلك ورغم تأكيدنا على الحق في حرية الرأي والتعبير وعدم مساسه أو انتهاكه، الا أننا نؤكد أيضا أن هذا الحق ليس مطلق و(مطلوق) يعير صاحبه في الخلق كما يعير الحمار المنفلت، المؤكد أن الحق في حرية التعبير ليس مطلقا على اطلاقه اذ له محدداته ومحاذيره وحدوده التي لا يجب تجاوزها، بل يجب إحداث التوازن المطلوب بين الحرية والمسؤولية عند ممارسة حق التعبير، فمقابل اي حق هناك واجب ومسؤولية، فأن يتمتع كائنا من كان بحقه في الحرية فذلك لا يعني انها حرية بلا سقوف تجعل منه ديكتاتورا يقول ويكتب ما يشاء وبالطريقة التي يشاء ومتى يشاء، يسب ويشتم من يريد بلا حيثيات وإنما على سبيل الابتزاز والانتصار للذات وشح النفس ويثير الفتن والنعرات وينشر الاكاذيب والاباطيل، ويمارس القذف والنميمة وإشانة السمعة، ويلون الاخبار ويجير المعلومات ويلوي عنقها لخدمة اهداف لا صلة لها بالحقيقة، ويلهث وراء الإثارة الضارة التي تبلبل افكار الناس وتشوش عليهم، إلى آخر مثل هذه الممارسات والاساليب التي تخرج حق التعبير من مساره الصحيح الى مسار لا اخلاقي وغير قانوني، وحق بكل هذه الجسامة والضخامة من المسؤوليات لا بد أن يمارس بكل دقة وصدق وموضوعية وتوازن، ولهذا احيطت ممارسته بسياج من المحددات والاخلاقيات والاستحقاقات التي تعصم ممارسة هذا الحق من الانحراف به..