احتدمت في الفترة الأخيرة عملية المطالبات بتغيير أسماء المنشآت التي صنعها النظام السابق، سيما الجسور والمؤسسات التي حملت اسم البشير، مثل الجسر الذي يربط بين شندي والمتمة، والآخر الذي يربط بين الحصاحيصا وشرق الجزيرة ، وجسور أخرى في كريمة ودنفلا وغيرها من المنشآت التي صنعت بفلوس الشعب السوداني خلال الحكم السابق ..
*صحيح اعتاد الناس على تقبل مثل هذه الحملات التي تنهض عقب الثورات والانتفاضات، غير أنها يجب أن ترشد وتعقلن، والشيء بالشيء يذكر، أن بعضهم عقب انتفاضة أبريل 1985، قد بلغ بهم خيال التغيير درجة الخروج إلى الإعلام، مطالبين بإلغاء العمود رقم 25 في قاعة مبنى الجمعية التأسيسية، لأنه يرمز لثورة 25 مايو صاحبة ذلك الإنجاز ….
* أتصور أن الأبلغ من ذلك كله، هو أن تعتمد الثورات على إنجازاتها وتستند إلى مكتسابتها، ومن ثم أطلق عليها أسماء رموزها، ومسمياتها، كأن تصنع جسراً غير مسبوق في تاريخ السودان ثم تلقي عليه اسم كبرى التغيير، أو أن تصنع مشروعاً ضخماً لاستغلال لحوم وآليات وجلود الثورة الحيوانية السودانية الهائلة، ومن ثم تطلق عليه اسم مشروع دكتور الأصم أو المهندس مدني عباس مدني وزير الصناعة، أو حتى اسم الدكتور أحمد المصطفى رئيس تجمع المهنيين الذي قاد الحراك الشبابي …
* لا يكفي أن تنزل لافتة الساحة الخضراء وترفع بدلاً عنها لافتة الحرية لتحقيق هدف التغيير المنشود، فمثل هذا التغيير في الأسماء لا يكفي لتغيير نقل الملكية من عصر إلى عصر، فمهما بلغت درجة سوء أي إنسان فإن القانون لا يعطي أي أحد الحق في انتزاع حقوقه وملكياته، فربما تكون هنالك عهود سياسية سيئة وتكون في المقابل قد صنعت أشياء كثيرة جيدة ومفيدة، وفي المقابل مطلوب من العهود الديمقراطية الجيدة أن تصنع الكثير من المكتسبات الجيدة، فلا يكفي ان تنزع لافتات الآخرين.. و… و…
* غير أن التاريخ لا يسمح بذلك وهو يحفظ لكل العهود السياسية والحقب مكتسباتها، الشمولية منها والتعددية الديمقراطية، فما صنع في عصور الشمولية يكتب باسم الشمولية وما صنع في عصر التعدديات يكتب في دفتر الديمقراطيات، وهي لعمري المعادلة السودانية الصعبة، إذ ان معظم الإنجازات الوطنية الباهظة في بلادنا قد صنعت في عصر الشموليات التي خرجنا عليها وثرنا ضدها …
*بحيث نتطلع، والحال هذه، في حصر حكومة الحرية والتغيير قلب هذه المعادلة الباهظة رأساً على عقب، على أن تصبح لهذه النسخة من الفترات الانتقالية والديمقراطيات من الإنجازات ما يحطم تلك المسلمات القديمة، وذلك بصناعة الكثير جداً من مؤسسات التنمية الاقتصادية والصناعات التي تفوق منجزات الشموليات، فليس بالحرية وحدها يحيا الإنسان.
* على أن المواطن لسوء الحظ أو لحسنه لا أدري، فإنه في نهاية المطاف لا يحكم على الأنظمة بكثرة المواكب وتنظيم وقفات الاحتجاجات ولو كانت مليونيات، وإنما يقيس بمعيار صناعة المكتسبات وتحقيق الخدمات، وانخفاض الأسعار وتذليل أمر الأسواق، فربما كيس خبز صغير لفقير معدم خير له من ما طلعت عليه شمس عشرات المليونيات. فالرأي عندي ليس أمام عصر الحريات سوى الدفاع عن نفسه، بصناعة ما كسبت أيديه من المنجزات والمكتبات والمشروعات … وليس هذا كل ما هناك