عندنا في السودان فقدت الشيكات مصداقيتها، بعد ان تكاثر داخلو السجون لأن شيكاتهم مكشوفة أي بلا رصيد، لأن القانون السوداني يقضي بأن من يصدر شيكا بلا غطاء يبقى في السجن »لحين السداد«، ثم جاءت أزمة السيولة المستفحلة منذ أواسط عام 2018، وصار لكل سلعة سعرين: مثلا بالكاش 300 وبالشيك 500، وظهرت في الأشهر الأخيرة تجارة من نوع خسيس، فلأن البنوك باتت تفتقر الى السيولة فقد صار هناك تماسيح يقومون بتخزين المليارات في بيوتهم ومكاتب شركاتهم يبيعون الكاش، بأن يشتروا منك الشيك بأقل من قيمته بنحو 3 إلى 5%، وأنت مضطر لبيع الشيك لأن البنك لن يعطيك المبلغ الذي تحتاج إليه، ويذهب التمساح بالشيك الى البنك ويأخذ قيمته كاملة )تمساح= هامور في الخليج(.
قبل أيام قليلة اتصل بي صديق ميسور الحال نسبيا طالبا قرضا؛ بالتحديد طلب تحويل دولارات باسمه الى بلد أوربي، على ان يضع ما يعادل قيمتها في حسابي البنكي في السودان في أقرب وقت .. صحت في وجهه: أطرش أنت؟ ألا تسمع ما يتردد عن ان أسواق الأسهم في الخليج خسرت كذا تريليون دولار خلال ثلاثة أيام؟ وأن بنوك المنطقة أصيبت بالشلل الرعاش وصارت تتوكأ على عكاكيز خوفا من المستخبي؟ هل تظن أنني »أهبل« حتى أترك ثرواتي تحت رحمة سوق المال الذي صار يعاني من بؤس الحال والمآل؟ طبعا لم يصدق ما قلته واتهمني بأنني خذلته وخيبت ظنه فيّ، وحقيقة الأمر هي أنني لم استحسن فكرة أن أدفع له مبلغا بالدولار ليعيده الي بالجنيه السوداني، الذي يعاني من إعاقات تجعله يفقد شيئا من عافيته كل يوم، ولهذا قلت له: شوف يا صاحبي؛ أنا سوداني وأنت سوداني، وبلدنا في صدارة قائمة الدول الراعية للإرهاب، ولو حولت المبلغ الكبير الذي تطلبه اليك على بنك أوربي، فسنقع في ورطة وتصيبنا شبهة غسل الأموال وتمويل الإرهاب؛ فقال لي: أنت شخص جبان ولا أريد منك فلسا واحدا.
قبل سنوات اعتقلت الشرطة السودانية أكثر من 450 من علية القوم! لماذا؟ لأنهم اقترضوا من البنوك نحو 15 مليار دولار وطنشوا؛ طاردت البنوك بعضهم قبل الاعتقال، وشرعت في إجراءات بيع الأشياء التي رهنوها وقدموها كضمانات لنيل القروض، واتضح – مثلا – أن شخصا اقترض ما يعادل 15 مليون دولار قدم ضمانا تساوي قيمته 50 مليار دولار زيمبابوي )بس لعلمك فإن قطعة الخبز الواحدة في زيمبابوي تكلف 5 مليار دولار(، وخلال 3 أيام كان نحو ستين منهم قد دفعوا للبنوك نحو مليار ونصف مليار دولار كتسوية مبدئية تفاديا لدخول السجن )ولو دخل رجل أعمال السجن لمخالفة مرورية فإن مركزه يهتز في السوق(؛ واضطر بنك السودان المركزي الذي فتح البلاغات بحق التماسيح التي تأكل كل شيء ببلاش، الى فتح بلاغات ضد عدد من موظفي البنوك الذين سهلوا لمستثمرين وهميين الحصول على أموال بدون ضمانات او تقاعسوا عن مطالبتهم بالسداد، واتضح ان أولئك الموظفين مساكين، وأن الأوامر بتسهيل الاقتراض لأشخاص معينين بدون ضمانات حقيقة، جاءتهم من أشخاص من أهل الربط والعقد.
المصارف، وفي كل أنحاء الدنيا منحازة للأغنياء والوجهاء، وهذا هو سبب نكباتها المتكررة، لأن أصحاب الثراء والوجاهة لديهم من النفوذ ما يحميهم من تعريض ممتلكاتهم للمصادرة من قبل البنوك، ويتم فض الاشتباك بين الطرفين بجدولة الديون وإسقاط جانب منها، ولكن وبالمقابل، فأن البنوك تعمل بشراسة في ملاحقة المساكين، ويصادرون سيارتك لأنك دفعت 90 ألف كذا من قيمتها، ولكنك لم تسدد آخر قسط مستحق )1500 كذا(؛ وهكذا يسويها الكبار ونطيح فيها نحن المساكين.
دعك من حالنا البائس أصلا، ففي أمريكا وحدها فقد الملايين ممن تجاوزوا الستين كل ما ادّخروه لشيخوختهم، عندما اتضح ان المؤسسات والبنوك التي كانت تدير أموال المعاشات كان بها متنفذون يضاربون بمدخرات المعاشيين وضاعت المليارات في صفقات فاشلة.
وهذا هو غول السوق الحر عندما يكون بلا فرامل.