وصلاً لزاوية الأمس، وكانت عن افتتاح رئيس الجمهورية لمصنع العربية للأدوية البشرية والبيطرية بالمنطقة الصناعية )سوبا(، صباح اليوم.. وقلت فيما قلت، لقد أحسنت مراسم الدولة عملاً وهي تضع افتتاح هذا المصنع في برنامج رئيس الجمهورية.. وأن تبث وسائل الإعلام خبراً عن تدشين رئيس الجمهورية لإنتاج مصنع أو مشروع زراعي خير من مليون ندوة ومليار سمنار تعقدها السلطات عن الاستثمار في السودان.
:: وكما ذكرت، يتكون المصنع من ثلاثة خطوط إنتاج على النحو الآتي: خط المحقونات لإنتاج )900.000 لتر(، خط الشرابات لإنتاج )1.800.000 لتر(، خط المساحيق والكبسولات والأقراص لإنتاج )180.000 كيلوغرام(.. على أن يبدأ العمل بـ)60%( من طاقته الإنتاجية، وذلك بإنتاج أربعين صنفاً دوائياً، والأدوية بشرية وبيطرية.. وهذا ما يُمكن أن يُسمّى بالاستثمار الاستراتيجي.. وقد بلغت تكاليف المصنع فقط مبلغ وقدره )47 مليون دولار(.
:: تأملوا التكاليف والعائد.. )47 مليون دولار(، قيمة مصنع يكفي البلاد أربعين صنفاً دوائياً، وهي تكاد تكون أقل من قيمة تسوية دفعها أحد “القطط السمان”، وكذلك أقل من قيمة مسروقات أضعف “القطط السمان”.. وهذا يعني أن توطين الصناعة الدوائية ليس بحاجة إلى )مال قارون(، أو كما حال ميزانية الاستيراد.. فالشاهد، طوال العقود الفائتة، ظلت الحكومة تدفع لشركات الاستيراد مئات الملايين من الدولارات )مدعوماً(، بيد أن نصيب الصناعة الوطنية من هذا الدعم كان )صفراً(.. وتلك قسمة ضيزى، وتؤكد أن سياسة الدولة تدعم التجارة والاستيراد، وتحارب الصناعة والإنتاج.
:: وليس في الأمر عجب، ما يحدث في سوق الدواء يحدث في سوق القمح أيضاً، أي يدعمون شركات الدقيق ثم يسجنون المزارع بتهمة الإعسار، ثم يدعمون وكلاء الأدوية المستوردة ويعطلون الصناعة الوطنية.. والشاهد أن أثقال الرسوم والضرائب والإتاوات وأسعار الكهرباء الملقاة على الصناعة الوطنية كانت تحول بينها وبين النهضة ومنافسة الأدوية المستوردة بالجودة والسعر.. وكان معيباً للغاية دعم الحكومة الاستيراد الدوائي بثلاثمائة مليون دولار سنوياً، بيد أن مصانع بلادي تشتري مدخلات إنتاجها بدولار )السوق الأسود(.
:: ورغم هذا الكيل المعوّج، كانت أجهزة الحكومة تخدعنا بوعود الاكتفاء الذاتي وتوطين الصناعة الدوائية عاماً تلو الآخر.. ولا ننسى أن لوزارة الصحة المركزية خُطة مُعلنة منذ ثلاث سنوات لتوطين صناعة )650 صنفاً دوائياً( لحد الاكتفاء الذاتي بحلول العام )2018(.. وقد انتهى العام ولن تعتذر وزارة الصحة للمواطن عن عدم الوفاء بالوعد.. وبالتأكيد لن تسأل أية سلطة رقابية هذا الجهاز التنفيذي عن مصير تلك الخطة، إذ هم يظنون أن ذاكرة الناس في بلادنا مصابة بالزهايمر، ولا تتذكر الوعود.
:: وعلى كل، لقد تم منع استيراد الدواء المصنع محلياً لحماية الصناعة الوطنية، ونأمل أن تحوّل هذه الحماية كبار المستوردين إلى مصنعين.. ولكن على الحكومة ألا تراهن على القطاع الخاص فقط، لأن قيمة مصنع العربية للأدوية البشرية والبيطرية – 47 مليون دولار – يجب أن تشجع حتى مؤسسات الدولة على الاستثمار في الصناعة الدوائية، وخاصة المؤسسات التي تنافس عامة الناس في التجارة و)السمسرة(، أو كما يفعل جهاز الضمان الاجتماعي و)أجهزة أخرى(.