* ألغت الوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية دستور السودان الانتقالي للعام 2005، لكنها أبقت على وثيقة الحقوق والحريات، وضمنتها في صُلب الوثيقة (بشقيها الأصلي والمعدَّل)، لتصون بها حقوق الإنسان، وحرية التعبير، وحقوق المرأة والطفل، وحق كل متهمٍ في الحصول على محاكمة عادلة، باعتباره بريئاً حتى تثبت إدانته بأمر القضاء.
* ألزمت الوثيقة الدولة بصيانة حرية التعبير، وبالتالي يصبح غريباً أن تقدم السلطة على إغلاق بعض الصحف والقنوات، كي تشرد العاملين فيها، وتكبل أبواب منابرهم بالجنازير الثقيلة، وتخفرها بالتاتشرات، لمجرد الاشتباه في حصول تلك المؤسسات على تمويل من النظام البائد.
* عندما سمعت بالقرار تذكرت اجتماعاً عقده أحد وزراء الإعلام في عهد الإنقاذ مع رؤساء تحرير الصحف السياسية، بحضور مدير إدارة الإعلام في جهاز الأمن، وتحدث فيه الوزير عن ضيق وتبرم الرئيس المخلوع من ما أسماه (كثرة تجاوزات الصحف وتعديها على الحكومة)، مشيراً إلى اعتزامهم إنشاء نيابات في كل الولايات، ومحاكم إيجازية لمحاسبة ومعاقبة الصحف المتجاوزة، لتفادي التطويل في إجراءات التقاضي، تزامناً مع إيقاف المصادرات وبقية الإجراءات التعسفية المتخذة ضد الإعلام، ومع ذلك تحدث ممثل الجهاز مؤكداً أن ذلك الأمر لا يعنيهم، لأنهم سيستمرون في تطبيق قانونهم الذي يمنحهم حق المصادرة والإيقاف والاعتقال والحظر من الكتابة.
* فهمنا من حديث الوزير أن سلطته تريد أن تؤمن لنفسها عدالةً انتقائيةً، لم توفرها لمواطنيها، كي تستخدمها في قمع الصحافة بالخطوة السريعة، وتستغل السلطة القضائية في ردع الإعلام وتدجين الأقلام، فرفضنا حديثه واستهجناه.
* أذكر أيضاً أنني سألت مولانا البروف حيدر أحمد دفع الله، رئيس القضاء الأسبق (رحمة الله عليه) عن هوية الجهة المكلفة بتطبيق قانون الأمن، وبقية القوانين التي كانت تطبق على الصحف، فرد بكلمة واحدة (المحاكم).
* كنا سنتفهم مسوغات القرار الصادر من لجنة تفكيك مؤسسات الإنقاذ لو أنها حملت ما لديها من مستندات وأدلة، واتجهت بها إلى القضاء، كي تثبت أن المؤسسات المستهدفة بالتفكيك تم تمويلها من المال العام، وتعيد ملكيتها إلى الدولة وشعبها بأحكام قضائية عادلة، تخلو من شبهات الكيد والتشفي، لكننا لا نهضم معاقبة تلك المؤسسات بالاشتباه.
* كيف تتحدث اللجنة عن عدم تضرر العاملين في تلك المؤسسات من قراراتها، بعد أن شردتهم فعلياً، وأغلقت مقار عملهم، وحرمتهم حتى من أخذ متعلقاتهم الشخصية، وحرست صحفهم بالكلاشات والتاتشرات والدوشكات؟
* هذه العقلية القمعية لا تليق أبداً بثورةٍ خرج شبابها لمواجهة الرصاص بصدورٍ مفتوحةٍ، وهم يهتفون (حرية سلام وعدالة)، ودفعوا حياتهم، وجادوا بدمائهم ثمناً للتغيير.
* هذا الإجراء الغاشم لا يشبه إرث الثورة، ولا يليق بشعاراتها وأهدافها، ويتناقض مع توجهاتها السامية والرامية إلى إرساء قواعد الحرية والعدالة والديمقراطية وسيادة حكم القانون.
* لا نملك إلا أن نتعاطف مع الزملاء المتأثرين بالإجراءات المؤسفة، ونعلن وقوفنا معهم، ومساندتنا لقضيتهم، وفتح صفحاتنا لأقلامهم، ترسيخاً للمبدأ الخالد (الحرية لنا ولسوانا).
* من المؤلم حقاً أن تصدر مثل هذه الأفعال من سلطة تحمل اسم (الحرية والتغيير)، لأن ما فعلته بالمؤسسات الإعلامية المصادرة لا يمت للحرية بأدنى صلة، كما يدل على أن مؤشر (التغيير) في بلادنا يتجه إلى الأسوأ.
* كان بمقدور اللجنة أن تراجع ملكية تلك المؤسسات، وتتقصى في مصادر تمويلها، وتقصر إجراءاتها على الجوانب المالية والإدارية، حتى ولو استدعى الأمر تعيين حارس قضائي لها، من دون أن تقدم على إغلاقها، لتصيب حرية الصحافة في مقتل، وتعتقل حق التعبير (في فتيل).