صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

فضل من الله أن أكون سودانيا

19

زاوية غائمة
جعفر عباس
فضل من الله أن أكون سودانيا

‏‏‏‏
تعرضت خلال اليومين الماضيين لأزمة صحية اضطرتني إلى اللجوء إلى قسم الطوارئ بالمستشفى، وأكثر ما يضايقني خلال نوبات المرض أن يكون حولي أناس يسألونني كل بضع دقائق عن حالتي، وعيالي يعرفون عني ذلك ورغم أنني أرى القلق في عيونهم كلما انتكست صحيا إلا أنهم لا يسألونني مباشرة ما إذا كنت أحس بتحسن أو تدهور، فمثل عديد من الآباء أسعى دائما لإعطاء الانطباع بأنني تمام التمام، ولكن جميع محاولاتي لترويض زوجتي بحيث تكف عن إبداء القلق لحالتي الصحية راحت هباء، وأقول لها يا بنت الناس أفضل شيء يقوم به من يجالس شخصا مريضا، أن يتكلم معه عن أمور عامة لا علاقة لها بالمرض ليكف هو عن التفكير في المرض، فهي -سامحها الله- من النوع الذي ما ان يعرف انك مريض حتى: يللا نروح المستشفى/ انت مش طبيعي/ جبهتك دافئة/ )وبعد خمس دقائق: جبهتك سخنة جدا(، وتقرر ان تذهب إلى المستشفى لتكف هي عن »تهويل« الأمر، وتتناول مفتاح سيارتك، فتصيح: انت مجنون أم انتحاري؟ ناخذ تاكسي أو نطلب الإسعاف!! يا بنت الناس عمرك سمعت عن شخص طلب اسعاف لأنه يعاني من مغص.
المهم كانت حالتي الصحية في نهار الثلاثاء الماضي تستوجب الذهاب الفوري إلى المستشفى، وهناك قرر الأطباء احتجازي، وأنا أدخل قسم الطوارئ مستندا على كتف ولدي رآني شخص سوداني يبدو أنه يعرفني، فأبلغ الأمر لطبيب سوداني يعمل بالمستشفى، وخلال نصف ساعة كنت محاطا بأربعة أطباء سودانيين من معارفي، وقفوا على مسافة من طبيب الطوارئ الذي كان يقوم بتقييم حالتي، من دون ان يقولوا شيئا قط، ولكن وجودهم وعلى صدورهم شارات تشير إلى تخصصاتهم، جعل طبيب الطوارئ يتبادل الآراء معهم عن حالتي ومع هذا كانوا يقولون له إن القرار قراره.
وتقرر أن ألزم سرير المستشفى، وعند كاونتر التمريض المؤدي إلى غرف المرضى الداخليين كان اثنان منهم يسألون كبيرة الممرضات عن نوع الغرفة التي يتم إيوائي فيها، وعلموا ان طبيب الطوارئ أوصى لي بغرفة خاصة؛ ومن المؤكد أنه بحسب انني شخص من الكبار بدليل ان أطباء كبارا ظلوا يتابعون حالتي، ومن ثم قرر مجاملتهم بمعاملتي »استثنائيا«.
وبعد ان حللت في غرفتي انصرفوا عني، ثم تقرر أن يتوجهوا بي إلى قسم الأشعة، وهناك وجدت مريضا سودانيا لم ألتق به من قبل ومعه طبيبان سودانيان من معارفي أولئك، فسألتهما عنه فقالا إنهما لا يعرفان عنه شيئا سوى انه مريض، وأدركت أنهما يقفان معه كي يطمئن إلى أنه سيجد الرعاية المنشودة وخاصة أنه كان بلا مرافقين، لأن علة ما فاجأته في مكان العمل.
وعندما عدت إلى غرفتي انهالت علي المكالمات الهاتفية من أصدقاء ومعارف سودانيين للاستفسار عن حالتي الصحية، وكان لا بد ان أطمئن كل متصل بأنني بخير و»بسيطة/ وإن شاء الله سأعود إلى البيت بعد سويعات«، فقد علمتني التجربة أن وجود مريض سوداني في غرفة مستشفى ما يعني حرمان المرضى من حوله من الراحة بل وإصابتهم بعقد نفسية، فقد يكون المريض السوداني قد خضع لعملية استئصال اللوزتين ولكنه يستقبل أفواجا من الزائرين وكأنه عاد من الحج في زمن السفر بالجمال والبغال، فيحس من هم حوله من مرضى يعانون من علل »محترمة« أنهم مقطوعون من أشجار تعاني من الجفاف.
في مستشفى الكورنيش للنساء والولادة في أبو ظبي كان مقررا ان تجري سيدة من أقاربي جاءت لزيارة ابنتها عملية جراحية لإزالة ورم حميد في الرحم، وعندما جاءت الممرضة لاصطحابها إلى غرفة العمليات تشكل وفد من نحو عشر زولات ورافقن النقالة حتى باب تلك الغرفة، وبعد برهة من الزمن جاءت الممرضة خارجة وقالت للوفد النسائي ان العملية ناجحة تماما، وكان أمر السيدة المريضة، فشكرتها واعتذرت عن »الزحمة« التي تسببت فيها الزولات، فقالت لي إنها ومنذ أن التحقت بالعمل في المستشفى قبل أكثر من عشر سنوات، وكلما عانت من مرض تحس بالحزن لأنها غير سودانية، وأضافت: أجمل شيء لمعنويات المريض أن يحس بأنه محاصر بمن يحبونه.
وأنا أيضا في لحظة مرضي تلك ومحاصرة الأزوال لي وسؤالهم عني أحسست بأن الله أكرمني بأن جعلني سودانيا.زاوية غائمة
جعفر عباس
فضل من الله أن أكون سودانيا

‏‏‏‏
تعرضت خلال اليومين الماضيين لأزمة صحية اضطرتني إلى اللجوء إلى قسم الطوارئ بالمستشفى، وأكثر ما يضايقني خلال نوبات المرض أن يكون حولي أناس يسألونني كل بضع دقائق عن حالتي، وعيالي يعرفون عني ذلك ورغم أنني أرى القلق في عيونهم كلما انتكست صحيا إلا أنهم لا يسألونني مباشرة ما إذا كنت أحس بتحسن أو تدهور، فمثل عديد من الآباء أسعى دائما لإعطاء الانطباع بأنني تمام التمام، ولكن جميع محاولاتي لترويض زوجتي بحيث تكف عن إبداء القلق لحالتي الصحية راحت هباء، وأقول لها يا بنت الناس أفضل شيء يقوم به من يجالس شخصا مريضا، أن يتكلم معه عن أمور عامة لا علاقة لها بالمرض ليكف هو عن التفكير في المرض، فهي -سامحها الله- من النوع الذي ما ان يعرف انك مريض حتى: يللا نروح المستشفى/ انت مش طبيعي/ جبهتك دافئة/ )وبعد خمس دقائق: جبهتك سخنة جدا(، وتقرر ان تذهب إلى المستشفى لتكف هي عن »تهويل« الأمر، وتتناول مفتاح سيارتك، فتصيح: انت مجنون أم انتحاري؟ ناخذ تاكسي أو نطلب الإسعاف!! يا بنت الناس عمرك سمعت عن شخص طلب اسعاف لأنه يعاني من مغص.
المهم كانت حالتي الصحية في نهار الثلاثاء الماضي تستوجب الذهاب الفوري إلى المستشفى، وهناك قرر الأطباء احتجازي، وأنا أدخل قسم الطوارئ مستندا على كتف ولدي رآني شخص سوداني يبدو أنه يعرفني، فأبلغ الأمر لطبيب سوداني يعمل بالمستشفى، وخلال نصف ساعة كنت محاطا بأربعة أطباء سودانيين من معارفي، وقفوا على مسافة من طبيب الطوارئ الذي كان يقوم بتقييم حالتي، من دون ان يقولوا شيئا قط، ولكن وجودهم وعلى صدورهم شارات تشير إلى تخصصاتهم، جعل طبيب الطوارئ يتبادل الآراء معهم عن حالتي ومع هذا كانوا يقولون له إن القرار قراره.
وتقرر أن ألزم سرير المستشفى، وعند كاونتر التمريض المؤدي إلى غرف المرضى الداخليين كان اثنان منهم يسألون كبيرة الممرضات عن نوع الغرفة التي يتم إيوائي فيها، وعلموا ان طبيب الطوارئ أوصى لي بغرفة خاصة؛ ومن المؤكد أنه بحسب انني شخص من الكبار بدليل ان أطباء كبارا ظلوا يتابعون حالتي، ومن ثم قرر مجاملتهم بمعاملتي »استثنائيا«.
وبعد ان حللت في غرفتي انصرفوا عني، ثم تقرر أن يتوجهوا بي إلى قسم الأشعة، وهناك وجدت مريضا سودانيا لم ألتق به من قبل ومعه طبيبان سودانيان من معارفي أولئك، فسألتهما عنه فقالا إنهما لا يعرفان عنه شيئا سوى انه مريض، وأدركت أنهما يقفان معه كي يطمئن إلى أنه سيجد الرعاية المنشودة وخاصة أنه كان بلا مرافقين، لأن علة ما فاجأته في مكان العمل.
وعندما عدت إلى غرفتي انهالت علي المكالمات الهاتفية من أصدقاء ومعارف سودانيين للاستفسار عن حالتي الصحية، وكان لا بد ان أطمئن كل متصل بأنني بخير و»بسيطة/ وإن شاء الله سأعود إلى البيت بعد سويعات«، فقد علمتني التجربة أن وجود مريض سوداني في غرفة مستشفى ما يعني حرمان المرضى من حوله من الراحة بل وإصابتهم بعقد نفسية، فقد يكون المريض السوداني قد خضع لعملية استئصال اللوزتين ولكنه يستقبل أفواجا من الزائرين وكأنه عاد من الحج في زمن السفر بالجمال والبغال، فيحس من هم حوله من مرضى يعانون من علل »محترمة« أنهم مقطوعون من أشجار تعاني من الجفاف.
في مستشفى الكورنيش للنساء والولادة في أبو ظبي كان مقررا ان تجري سيدة من أقاربي جاءت لزيارة ابنتها عملية جراحية لإزالة ورم حميد في الرحم، وعندما جاءت الممرضة لاصطحابها إلى غرفة العمليات تشكل وفد من نحو عشر زولات ورافقن النقالة حتى باب تلك الغرفة، وبعد برهة من الزمن جاءت الممرضة خارجة وقالت للوفد النسائي ان العملية ناجحة تماما، وكان أمر السيدة المريضة، فشكرتها واعتذرت عن »الزحمة« التي تسببت فيها الزولات، فقالت لي إنها ومنذ أن التحقت بالعمل في المستشفى قبل أكثر من عشر سنوات، وكلما عانت من مرض تحس بالحزن لأنها غير سودانية، وأضافت: أجمل شيء لمعنويات المريض أن يحس بأنه محاصر بمن يحبونه.
وأنا أيضا في لحظة مرضي تلك ومحاصرة الأزوال لي وسؤالهم عني أحسست بأن الله أكرمني بأن جعلني سودانيا.

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد