-1-
لم يتوقَّف هاتفي من الرنين طوال يوم أمس. كثيرون أزعجهم خبرٌ تمَّ تداوله على نطاق واسع في الشبكة العنكبوتية.
نصُّ الخبر، أن الأجهزة الأمنية اقتحمت صحيفة )السوداني(، وأطلقت الرصاص داخل مباني الصحيفة.
تلقَّيتُ عدداً من الاتصالات من أجهزة إعلام عالمية، تَستفسر عن ما حدث، وتسأل عن عدد المصابين، وعن أسباب الاقتحام!
تعامل البعض مع المعلومة كحقيقة ثابتة، تحتاج فقط إلى تفاصيلَ مُضافة، لإكمال القصَّة الخبرية.
-2-
سأروي لكم ما حدث دون زيادةٍ أو نقصان:
اندلعت تظاهراتٌ في وسط الخرطوم في المنطقة المحصورة بين شوارع البلدية والمك نمر والسيد عبد الرحمن والقصر.
مقرُّ صحيفة )السوداني( داخل هذا المُربَّع المُلتهب نهارَ أمس. تفتح أبواب الصحيفة على شارع أبو قرجة الرابط بين البلدية والسيد عبد الرحمن.
بعض المُتظاهرين قاموا بوضع حجارة كبيرة الحجم على شارع أبو قرجة بجوار بوابة الصحيفة، لإعاقة حركة سيارات القوات النظامية.
مع تصاعد الوضع وارتفاع الأصوات وروائح الغاز ودويِّ الرصاص، خرجت مجموعة من الصحفيين والصحفيات لمُتابعة ما يحدث في الخارج.
-3-
سيَّارتان كانتا في مُطاردة المُتظاهرين أعاقتهما الحجارة. أحد الجنود طلب من الصحفي اليسع الواقف مع زملائه أمام بوابة الصحيفة، إزاحةَ الحجارة من الطَّريق حتى تمرَّ سياراتهم. رفض اليسع ذلك بمبرر موضوعي: )ليس من واجبي القيام بهذه المُهمَّة(.
حدث شدٌّ وجذب. تدخَّل الصحفي ياسر عبد الله مُدافعاً عن وجهة نظر اليسع: ليس من واجبه التكفُّل بحمل حجارة ثقيلة، وضعها آخرون على الطريق.
بصورة همجية وبربرية، تمَّ الاعتداء على الصحفي ياسر عبد الله بالضرب والعبارات السوقية الجارحة، وتم رفعه على السيارة مع مُواصلة الضرب.
عندها تدخَّل أحد أفراد الأجهزة الأمنية، مُعاتباً المُعتدين ومُعتذراً لياسر. ياسر لم يكن ضمن المتظاهرين، وناصر زميله في موقف يراه سليماً.
ذهبنا مع ياسر إلى المُستشفى، وأُجريت له الإسعافات اللازمة، وتمَّ أخْذُ صورةٍ لرأسه لأنه تعرَّض للضَّرب بالدبشك.
-4-
حينما ذكرتُ على صفحتي بـ)فيسبوك(، أن إطلاق الرصاص لم يتم داخل الصحيفة، كما شاع وراج على نطاق واسع، تصدَّى البعض لي بالنقد والهجوم.
سببُ الهياج أن البعض يرى أن النفي والتوضيح لذلك الخبر المُثير، سيفتح الباب أمام التَّشكيك في كُلِّ الأخبار التي يتمُّ تداولها عن التظاهرات.
بعض هؤلاء يظنُّون بجهلٍ وغباء، أن الأكاذيب بإمكانها أن تُشعل ثورةً وتُسقط نظام حكم، فيتسابقون في نشر شائعات سريعة الافتضاح.
-5-
منذ أوَّل يومٍ للتظاهرات، تبارى البعض في نسج الأكاذيب، رغم أن ما فعلته الحكومة كان كافياً للتحريض عليها.
)هروب البشير إلى روسيا، بكري مُصابٌ برصاصة ويُعالج برويال كير( وغير ذلك!
بعد مباراة الهلال والإفريقي التونسي واندلاع التظاهرات، خرجت قائمة تحمل أسماء 12 شهيداً وهمياً، سُرعان ما ثبت زيفها وعدم صدقها.
وقس على ذلك.
ليس على الحاكمين فقط التزام الصِّدق والعدل، كذلك من يعارض عليه أن يتوخَّى الصِّدق والعدل، مهما كانت درجة الغيظ والشنآن.
من العدل والحق، وكما علينا إدانة إطلاق النار على المتظاهرين وقتلهم بدمٍ بارد؛ علينا كذلك رفض وإدانة أي أعمال تخريب تستهدف المُمتلكات العامَّة والخاصَّة.
-6-
بقواني ن التاريخ وبمنطق الأشياء، تسقط الحكومات عندما تفشل تماماً في إدارة معاش الناس، وتوفير الحياة الكريمة.
تسقط الحكومات، عاجلاً أو آجلاً، إذا لم تُحارب الفساد وتحفظ المال العام وتُحكِم إدارة الدولة.
تسقط الحكومات بالضربة القاضية، وربما بحساب النقاط، وفي أحيانٍ بهاء السكت، حينما ينفد رصيد مصداقيَّتها وتبدو عاجزةً حتى عن الأكاذيب.
الأكاذيب لا تُحيي نظاماًَ ولا تُسقِطه كذلك.
الحكومات تُسقِطُها الحقائقُ فقط لا غير.