كثيرةٌ هي الرسائل التي بعثت بها مواكب 30 يونيو التي عمت كل مدن السودان وأريافها والنجوع البعيدة، بل كثيرةٌ هي الدروس والعِبر التي يمكن أن نعيها ونستلهمها من مواكب الثلاثين من يونيو التي انطلقت كالسيل الهادر، ولكن هل من يعي الدرس ، وهل مِن مُعتبر؟…
وفي ظني أن أهم درس يمكن الاستفادة منه مستقبلاً هو أن الحشود المصنوعة وهْمٌ كبير لا يصمُد أمام الحقيقة التي يراها الناس رأي العين إلا بمقدار زمن الخداع البصري الذي يصنعه سرابٌ يحسبه الظمآن ماءً لا يروي الظمأ ولا يبعث الأمل ولا تغني من الحقِّ شيئاً، فإهدار وتبديد المليارات من الجنيهات في الحشود المصنوعة كانت من أهم أسباب اندلاع الثورة، وبالطبع لا وجه للمقارنة بين الحشود “المدفوعة”، والحشود “المندفعة” كجلمود صخرٍ حطه السيل من عُلِ…
فالحشود “المدفوعة” تحركها المصالح الشخصية الضيقة، فإن قبض سماسرتُها حشدوا وعلتْ حناجرهم الغليظة بالهُتاف، وإلا فلا، والحشود “المندفعة” تندفع تلقائياً بقوة الدفع الذاتي والرغبة في الحياة الكريمة التي لا ذلّ فيها ولاهوان…. والحشود “المدفوعة” تحتاج إلى تساهيل ووسائل للراحة والحركة ثم رهانٌ مقبوضة ، والحشود “المندفعة” تندفع نحو أهدافها بقوة كالسيل الجارف تحت فوهات البنادق، ووابل الرصاص وفي عز الهجير لتواجه مصيراً مجهولاً، فهل يستوي هؤلاء القابضون على جمر القضية، وأولئك القابضون على الشواء فحَبِطَ ما صنعوا وباطِلٌ ما كَانوا يعملون..
الحشود “المدفوعة” تصنع الطُغاة والاستبداد، والحشود “المندفعة” ذاتياً تصنع المجد والكرامة… والحشود المدفوعة تتخذ من الوهْم ثوباً لتزوير الإرادة والتضليل والتطبيل، والتعتيم… والحشود “المندفعة” ذاتياً تتخذ من الحقيقة سراجاً وهاجاً لمواجهة العتمة وطرد الخفافيش… والحشود “المدفوعة” تُعين على ثنائية الظلم والفساد، والحشود “المندفعة” ذاتياً تُعين على الحق والعدل…
رجل الدولة الذي يُفكر بالعقل الاستراتيجي للدولة سيقرر أي الحشود سيختار، تلك التي تصنع الطغاة وتتخذ من الوهم ثوباً لتزوير الإرادة والتضليل والتطبيل، والتعتيم، وتُعين على ثنائية الظلم والفساد، أم تلك التي تصنع المجد والكرامة والمشاريع النهضوية، وتتخذ من الحقيقة جذوة لطرد الظلام وإنارة دروب النضال ومقاومة البغي والظلم وتعين على الحق..
إذ لا توجد دولة ليس لها عقل استراتيجي قوامه العلماء ، ويُغذيه العلم والمعرفة ، فإذا غاب عقل الدولة الاستراتيجي تمدد العقل الذي يدير شؤون البلاد على طريقة زراعة البصل والطماطم، وتُجّار القطاعي في الأحياء الطرفية، كما كان الأمر خلال الثلاثين عاماً الماضية حيث كانت مؤسسات الدولة تدار بالعقل الرعوي ورزق اليوم باليوم…. اللهم هذا قسمي فيما أملك.
نبضة أخيرة
ضع نفسك دائماً في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الـله، وثق أنه يراك في كل حين.