الحمدُ لله حمدًا حمدًا، والشكر لله شكرًا شكرًا، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، والهادي إلى رضوان ربِّه، وعلى آله وصحبه، ومَن تَبِعَهُ إلى يوم الدِّين.
أما بعدُ عباد الله:
اتقوا الله واتَّقوا يومًا تُرجَعون فيه إليه سبحانه وتعالى، يوم يُنفَخُ في الصور، ويُبعَثُ مَن في القُبُور ثم اعلموا أنَّ هناك حقيقةً طالما غَفَلتم عنها ولحظةٌ حاسمةٌ لا بدَّ أنْ تلاقيكم، نعم ّإنها لحظة الموت فإلى أين مِن هذه اللَّحظة المَهربُ؟ وإلى أين منها المَفرُّ؟ فالموت لا تمنع منه جنود، ولا يُتَحَصَّن منه في حصون، ّإنه مُدرككم أينما كنتم، إنه واعظ لا ينطق، واعظ صامت يأخذ الغنيَّ والفقير، والصحيح والسقيم، والشريف والوضيع، والمُقِرَّ والجاحد، والزاهد والعابد، والصغير والكبير، والذكر والأنثى.
ايها الناس افلا ترون؟ ألا تتفكرون؟ ألا تنظرون؟ تُشَيِّعون في كلِّ يوم ّإلى المقابرغاديًا إلى الله، قد قضى نَحْبَه، وانقضى أجلُه، تهيلون عليه التراب ، تتركونه في باطن الّأرض وحيدا ثم تعودون لمزاولة حياتكم وكّأن شيئا لم يكن دون ّأن يترك الموت فيكم ّأثراّ ؟ افيقوا ايها الناس فكفى بالموت واعظًا، لمن كان له قلب أو ألقى السَّمع.
يقول ابن عوف: خرجتُ مع عُمَر – رضي الله عنه – إلى المقبرة، فلما وقفنا عليها ارتعد واختلس يده من يدي، ثم وضع نفسه على الأرض، وبكى بكاءً طويلاً، فقلت: ما بك؟ قال: يا ابن عوف ثكلتك أمك، أنسيت هذه الحفرة؟! حاله يقول: لمثل هذا فأعدَّ.
ايها المسلمون :
والله لو كان الأمرُ سينتهي بالموت لكان هَيِّنًا سَهْلاً، لكنَّ القبر مع شدته وهوله أهون مما يليه، ، نعم كل ذلك هيِّن إذا قُورِن بالوُقُوف بين يدي الله الكبير المتعال، يتلفَّتَ المرءُ يمينًا فلا يرىَ إلاَّ ما قدَّم، وشمالاً فلا يرىَ إلا ما قدَّم، وينظر تلقاء وجْهِه، فلَا يَرىَ إلا النار، فيا له من موقف ويا لها من خطوب تذهل المرضعة عما أرضعت، وتضَعُ كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد فيا لها من أحداث مجرد تصوُّرها يخلع ويذيب القلوب.
روي عن الحسن: أن رسول الله – صلَّى الله عليه وسلم – كان رأسه ذات يوم في حجر عائشة فنعس، فتذكرت الآخرة – عائشة رضي الله عنها – فسالتْ دموعُها على خدِّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلم – فاستيقظ بدموعها، ورفع رأسه، وقال: (ما يبكيك؟) قالتْ: يا رسول الله، ذكرت الآخرة، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ قال – صلَّى الله عليه وسلم -:(والذي نفسي بيده، في ثلاثة مواطن، فإن أحدًا لا يذكر إلا نفسه: إذا وضعت الموازين حتى ينظر ابن آدم أيخفُّ ميزانه أم يثقل، وعند الصحُف، حتى ينظر أَبِيَمِينِه يأخذه أم بشماله، وعند الصِّراط – نعم عند الصراط – أَيَمُرُّ أم يكردس على وجْهِه في جهنَّم)
يؤتى بابن آدم حتى يوقف بين كفتي الميزان، فتصور نفسك يا عبدالله، وأنت واقف بين الخلائق، إذ نودي باسمك: هلمَّ إلى العرض على الله الكبير المتعال، فتسّأل : شبابك فيمَ أبليته؟ عمرك فيمَ أفنيته؟ مالك من أين اكتسبته؟ وفيمَ أنفقته؟ علمك ماذا عملت به؟ هذه الأسئلة، فما الإجابة؟ فاتقوا الله ّايها الناس واتقوا يومًا ترجعون فيه إليه فتُوَفَّى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
ايها الناس :
إن ما نراه في المقابر عند تشييع الموتى من خوض في امور الدنيا ودردشات وقهقهات وّإنشغال بالموبايل يدل على أن القلوب قد ألفت الدنيا حتى صارت الدنيا شغلها الشاغل ولم تعد المواعظ ولا المقابر تؤثر فيها فافيقوا ثم افيقوا ثم افيقوا .
أسألُ اللهَ –جلَّ وعلا- أنْ يَهديَنا والمسلمين أجمعين إلى ما فيه خَيْرُنا وخيْرُ أُمَّتِنَا وخيرُ المسلمين في جميعِ بقاعِ الأرض، وإلى مَا فيه نَجاتُنا مِنَ المهالِكِ في الدنيا والآخرة وأن يُحسِنَ خِتامَنا. وصلى الله وسلم على نبينا مُحمَّدٍ وعلى آله وأصحابه ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين .