إنَّ الحمد لله نحمده، ونستَعِينه ونستَغفِره وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُ الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد أيها المسلمون :
ثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أوصى أحد أصحابه ــ رضي الله عنهم ــ فقال له : (اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ ) .
وقد جاء في هذا الحديث النَّبوي ثلاثة أشياء:
الأول: مُعاملة العبد مع ربِّه سبحانه، وكيف تكون، وقد جاءت في قوله صلى الله عليه وسلم: (اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ ).
والثاني: مُعاملة العبد لنفسه إذا قصَّرت في جنْب الله تعالى، وقد جاءت في قوله صلى الله عليه وسلم: ( وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا).
والثالث: مُعاملة العبد مع الناس، وكيف تكون، وقد جاءت في قوله صلى الله عليه وسلم: ( وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ ).
ولو أراد شخص أنْ يَشرح هذه الثلاثة حقَّ شرحها، فيُبَيِّن مسائلها وشواهدها، ويَذكُر ما تنتظمه مِن معانٍ وأحكام، وما حوته مِن فوائد، لاحتاج إلى وفت طويل وزمن غير يسير ولو كتب حولها بيده فربما إستهلك كميات من الحبر والورق ولكن لا بأس بشرحٍ مُختصر يُناسب مقام الخُطبة وقصرها .
فقوله صلى الله عليه وسلم: ( اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ ) معناه المختصر هو : افعل ما أمرك الله به، وأوجبه عليك، واجتنب كل ما نهاك عنه، وحرَّمه عليك، في السِّر والعلانية، حيث يراك الناس، وحيث لا يرونك، سواء كنت لوحدك في السَّكن أو العمل أو المركبة أو الطريق، أو كنت مع غيرك يَرون فِعالك ويسمعون كلامك، وسواء كنت في بلدك يَراك أهلك وعيالك وقبيلتك وعشيرتك وأصحابك فتخشى الفضيحة والذَّم إنْ فعلت ما يَحْرُم، أو كنت في بلاد الغُربة والسَّفر لا يَراك إلا مَن لا يعرفك مِن الغُرباء والأباعِد، لا تخاف مِن لومٍ ولا عِتاب ولا سُمعة سيئة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا ) لاحظوا أنه قد أتى بعد قوله صلى الله عليه وسلم:( اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ ) وذلك لأنَّ المؤمن الذي يتقي ربَّه لا بُدَّ أنْ يقع مِنه تقصير في حقِّ ربِّه، أو حقِّ نفسه، أو حقوق المخلوقين، لأنَّ كل ابن آدم خَطَّاء، فأمَره صلى الله عليه وسلم بما يَدفع هذا التقصير والزَّلل ويَمحوه، وذلك بأنْ يُتبِع السَّيئةَ بالحسنة لتمحوها ، والحسنة هي: كل عمل صالح يُقرِّب إلى الله تعالى ، وأعظم الحسنات الدافعة للسيئات: التوبة النصوح، والاستغفار، والإنابة إلى الله بذكره وحُبِّه، وخوفه ورجائه، والطَّمعِ فيه، وفي فضله كل وقت، وقد قال ــ عزَّ شأنه ــ: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ، وقال – جلَّ وعلا ــ: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ )
أمَّا قوله صلى الله عليه وسلم: ( وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ)، فأوَّل الخُلُق الحسن هو أنْ تَكُفَّ عن الناس أذاك مِن كل وجه، وتعفو عن مساوئهم وأذيتهم لك، ثم تعاملهم بالإحسان القولي والإحسان الفعلي.
وأخَصُّ ما يكون بالخلق الحسن هو سَعة الحلم على الناس، والصبر عليهم، وعدم الضجر مِنهم، وبشاشة الوجه، ولُطف الكلام، والقول الجميل المؤنس للجليس، المُدخِل عليه السُّرور، المُزيل لوحشته ومشقَّة حِشمته، وقد يَحسُن المِزاح أحيانًا إذا كان فيه مصلحة، لكن لا ينبغي الإكثار مِنه، وإنَّما المزاح في الكلام كالملح في الطعام، إنْ عُدم أو زاد على الحدّ فهو مذموم، ومِن الخُلُق الحسن: أنْ تُعامل كل أحدٍ بما يليق به، ويُناسب حاله مِن صغير وكبير، وعاقل وأحمق، وعالم وجاهل، وحاكم ومحكوم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه سُئل عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: ( تَقْوَى اللَّهِ، وَحُسْنُ الخُلُقِ). وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.