إنَّ الحمد لله نحمده، ونستَعِينه ونستَغفِره وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُ الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين وسلم تسليمًا كثيرًا.
هذه إحدى صور الإيثار التي رواها لنا الإسلام والتي تمتلىء بها كتب السيرة العطرة والإيثار أيها الأحباب معناه تفضيل الآخرين وتقديمهم والإيثار على النفس مع الحاجة قمةٌ عُليا لم تشهد البشرية لها نظيرًا، وهو أكمل أنواع الجود، وذلك بأن يقدم الإنسان غيره على نفسه بمحابها من الأموال وغيرها.. ويبذلها لغيره مع حاجته إليها، بل مع الضرورة والخصاصة.. وهذا لا يكون إلا من خلقٍ زكي ومحبةٍ لله تعالى مُقَدْمَةٍ على محبة شهوات النفس ولذاتها..
أيها الإخوة:
هذا الخلق العظيم والبذل الكبير خصه الإسلام بأجر عظيم ومنزلة عليا، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا فَأَطْعَمْتُهَا ثَلاَثَ تَمَرَاتٍ فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا؛ فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ». صحيح مسلم
وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ -من الإرمال وهو فناء الزاد وقلة الطعام- أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّى وَأَنَا مِنْهُمْ).
ثم تتابع الناس في الأخذ بهذا الخلق حتى صار سمة للأمة المسلمة تتوارثه جيلا بعد جيل وخصوصًا بالأزمات وعند الحاجة وفي أيام الخوف والمسغبة الشديدة..
وتتكرر الصورة في هذا المجتمعات الإسلامية ويتناقل الناس أخبار الإيثار فيها لو ذهبنا نذكرها طال بنا المقام، المهم أن تبقى جذوة هذا الخلق العظيم باقية في نفوس الأمة وصورة حية في قلوب أفرادها، وستضل الحاجة إليها مستمرة لكنها تزيد في زمان دون آخر.
أيها الإخوة:
قال الغزالي: ليس بعد الإيثار درجة في السخاء.. وقال ابن القيم رحمه الله: (السّخاء أعلى مراتب العطاء والبذل، وهذه المراتب هي: الأولى: ألّا ينقصَه البذلُ، ولا يصعبُ عليه العطاء وهذه مرتبة السّخاء. الثّانية: أن يعطي الأكثرَ ويبقي له شيئًا أو يبقي مثل ما أعطى، وهذا هو الجود. الثّالثة: أن يؤثر غيره بالشّيء مع حاجته إليه وهذه مرتبة الإيثار).
أسأل الله بمنه وكرمه أن يهدينا لأفضل الأخلاق والآداب لا يهدي لأحسنها إلا أنت وأن يجنبنا أسوء الأخلاق لا يوفق لتجنبها إلا أنت، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..