ظلت حكومة السودان، تُمارس الدبلوماسية الناعمة تجاه المواقف التي تأتيها من تلقاء جارتها مصر بين الفينة والأخرى، في محاولة منها لتحريك بِركة المياه الراكدة، تحت قضية مثلث حلايب، وبتصاعد التوتر فسّر مراقبون صمت الخرطوم على أنه تمديد (لفافات الصبر) إعلاء للعلاقات الأزلية، وليس تنازلاً منها. فيما استنكر دبلوماسيون خطوة القاهرة بطرح مربعات للتنقيب المعدني في هذا التوقيت الدقيق للخرطوم، رغم هدوء المناخ السياسي بين البلدين، وجهود الحكومة المصرية البائن في الفترة الأخيرة للحفاظ على استمرار هذه العلاقة، ومع ذلك بات المثلث (صفيحا ساخناً)، وعقبة كؤوداً أمام استقرار هذه العلاقات.
مؤخراً طرحت مصر عشرة مربعات في البحر الأحمر للتنقيب عن النفط والغاز والمعادن للاستكشاف والاستغلال في عطاء عالمي وفق خارطة مرفقة، بيد أن حكومة السودان سارعت بإطلاق تحذيراتها لشركات التعدين الإقليمية والدولية من الدخول في عطاءات تستهدف التعدين في المربعات التي طرحتها الحكومة المصرية، واعتبرت ذلك تغولاً صريحاً على أرض ومياه سودانية تشمل منطقتي حلايب وشلاتين، نظراً لوقوع هذه المناطق ضمن إقليم دولة السودان، وتحت سيادته.
تحذيرات الخرطوم
وقطعت مفوضية الحدود السودانية، بأن مصر طرحت 4 مربعات هي (7 و8 و9 و10)، في البحر الأحمر، للتنقيب عن النفط والغاز والمعادن للاستكشاف والاستغلال، في عطاء عالمي للتنقيب عن النفط والغاز وفق خارطة مرفقة، مع الطرح.
وقال الدكتور معاذ أحمد تنقو، رئيس المفوضية القومية للحدود في تصريحات، إنه وبعد مراجعة خطوط الطول والعرض التي تحدد المواقع الجغرافية لهذه المربعات؛ تأكدت المفوضية القومية للحدود، من أن هذه الخارطة قد تغوّلت على جزء من إقليم السودان الواقع تحت سيادته في مثلث حلايب والمياه الإقليمية، والمناطق البحرية والجرف القاري.
وأشار إلى أن السودان يحذّر شركات الطاقة والتعدين الدولية والإقليمية كافة من التقدم بأي عطاءات على هذه المربعات الأربعة، ومن أي محاولة للاستثمار فيها أو استغلالها في الإقليم البري الذي يقابلها يعرض هذه الشركات للمساءلة القانونية.
وأكد تنقو أن استناد الحكومة المصرية لاتفاق 1899 لا يصح قانوناً وفق القانون الدولي ولا ينطبق هنا، فهو لم يكن اتفاقية دولية أبداً؛ بلسان من وقّعوه في 1899.
تصيُّد المواقف
في ذات الوقت، حذرت وزارة النفط والغاز، شركة جنوب الوادي المصرية القابضة من طرح عدد من المربعات بمنطقة حلايب للتنقيب عن النفط، وأكدت الوزارة في بيان لها بلسان وزير الدولة سعد الدين البشرى، أن امتياز منطقة حلايب تقع تحت دائرة صلاحيات وزارة النفط السودانية، وفقاً للخرائط المعتمدة من قبل الهيئة العامة للمساحة السودانية ووزارة الدفاع.
ووصفت التدخُّل في صلاحيات وزارة النفط السودانية في منح التراخيص للتنقيب بهذه المنطقة بالتعدّي. ووفقاً لذلك استحسن الخبير الدبلوماسي والسفير السابق د. الرشيد أبوشامة رد السودان لجهة أن الرد جاء من جهة فنية تصدت من مدخل فني وأرجِئت التدخلات السياسية إلى حين حدوث أي تطوّر من جهة سياسية، عندها توقع أن تتدخل وزارة الخارجية بالرد السياسي، وأشار في حديثه لـ(الصيحة) إلى أن مصر تتصيّد المواقف لصالحها ولتمرير أجندتهاـ لا سيما وأن السودان الآن يمر بظروف سياسية متأزمة، مستغلين ظرفه السياسي وربط ذلك بتراجع مصر عن ربط الكهرباء بالسودان رغم إعلانها قبل فترة قصيرة عن جاهزيتها لتوصيل الكهرباء للشبكات السودانية، مارس الجاري مقابل تبادل السلع. واعتبر العلاقة المصرية السودانية علاقة (هلامية) قوامها المصلحة.
ولم يستبعد أن يتجه السودان للشكوى رسمياً لمجلس الأمن حال حدث تطور سياسي من جهة مصر.
صراع الأرض والمورد
يُمثّل المثلث الذي لا تزيد مساحته على عشرين ألف كيلو متر مربع، أبرز القضايا الخلافية بين السودان ومصر منذ عام 1958، حينما اعترضت مصر على جعل السودان منطقة حلايب إحدى الدوائر الجغرافية في الانتخابات العامة التي جرت في السودان حينها. وحسب خبراء، فأن الأهمية السياسية للمثلث، لم تقتصر على الأرض فقط، وإنما تمتد أهميته أكثر في المعادن والثروات الراقدة بباطن الأرض، أبرزها البترول والنحاس والمغنيسيوم والذهب الذي يغطي مساحات واسعة في المنطقة التي تتمدد في ساحل بحري مهم.
وتؤكد كثير من الدراسات والاستكشافات ذلك، وأرجع المحلل السياسي، د. عبدو مختار أهمية مثلث حلايب كونها منطقة إستراتيجية، ومحمية طبيعية. وتقع حلايب على مقربة من ميناء جدة بنحو مئتي كيلومتر من الناحية الغربية شمال خط عرض 22، بشكل يجعل بناء ميناء بها أكثر قيمة من غيره للسودان، بالإضافة إلى كونه معبراً للأنشطة التجارية في الطريق الذي يمتد بين بورتسودان حتى القاهرة، تضم 27 قرية، تسكنها مجموعات قبائل البشاريين والعبابدة والبجا والعفر، وقليل من الرشايدة، وكلها قبائل سودانية يتحدث أغلبها اللغة البيجاوية المحلية.
استغلال الوضع السياسي
وقال الخبير الأكاديمي والمحلل السياسي، د. عبده مختار لـ(الصيحة)، إن فتح مصر ملف حلايب في هذا التوقيت يعتبر استغلالاً للوضع السياسي والاقتصادي المضطرب الآن بالسودان (في انتهازية سياسية)، ظاهرة وانشغال البلاد بالقضايا الداخلية في محاولة منها لـ(تمصير) حلايب، ولكسب مزيد من الوجود المصري الاقتصادي، وفرض كرت ضغط لمزيد من التعامل التجاري، وأردف بأن ذلك يُعبّر عن نوايا غير مقبولة لدولة تعتبر شقيقة للسودان، ينبغي أن تقف مع جارتها لا أن (تنكأ مزيداً من الجراح) بفتح الملفات المُزعِجة.
بالمقابل، ظل السودان يتمسك مثلث حلايب، ويعتبره عمقاً إستراتيجياً وبوابة من بواباته المفتوحة على العالم الخارجي، وجزءًا من أرضه التي ما يزال محتفظاً فيها بحامية عسكرية حتى الآن، واستمر في تجديد شكواه لمجلس الأمن الدولي حول أحقيته بمثلث حلايب، حتى شكواه في بداية العام الجاري، بعدما فتحت اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، التي تخلت بموجبها القاهرة عن جزيرتي تيران وصنافير لصالح الرياض، الباب للخرطوم لطلب الاطلاع على الاتفاقية اعتقاداً منها بأنها تمس جزءًا عزيزاً من حدودها البحرية.
وأعلنت القاهرة في يناير الماضي عدداً من الإجراءات، تمثلت في إعلان التوجّه بشكوى لمجلس الأمن ضد السودان، وبناء مئة منزل بحلايب، وبث برنامج تلفزيوني في المنطقة، وإنشاء سد لتخزين مياه السيول، وميناء للصيد في منطقة شلاتين أحد أضلاع المثلث.