(1)
أي ثورة في الدنيا لا بُدّ لها من شرطين، الأول موضوعي يتمثل في الأحوال العامة التي يرفضها الشعب ويسعى لتغييرها، والشرط الثاني هو القيادة التي تعيد إنتاج الظرف الموضوعي في شكل خطابٍ تقود به الناس نحو التغيير الثوري، فثورة “ديسمبر – أبريل” المجيدة ظرفها الموضوعي توفّر منذ حُدُوث الانقلاب في يونيو 1989، وبدأ تراكُم الرَّفض مُنذ ذلك اليوم في شَكل احتجاجات وتَمَرُّدات وانقلابات وإضرابات وَمَقَالات، وكُلّما زَادَ الاستبداد والفساد والطُغيان زَاد الرّفض، بيد أنّ الظـرف الذّاتي المُتمثل في القيادة لَم يَصل مُستوى الظرف الموضوعي إلا بظُهُور قُوى الحُرية والتّغيير والتي كَانَ تَجمُّع المهنيين قلبها النابض، ولما بلغ الظرف الموضوعي قمّته في انعدام الخُبز والوقود والسُّيولة، أدار تجمُّع المهنيين مُحرِّك الثورة وقادها إلى أن وصلت محطة القيادة العَامّة في 6 أبريل، ثُمّ جاء انحياز القوات المسلحة في الحادي عشر من أبريل مُمثلاً في اللجنة الأمنية التي أصبحت المجلس العسكري الانتقالي، فأصبحت البلاد أمام فجرٍ يُعيد تجربة سوار الذهب – الجزولي (أبريل 1985)، ولكن قُوى الحُرية والتّغيير رفضت ذلك الفجر، فكان عزل ابن عوف، ثُمّ حل اللجنة السِّياسيَّة للمجلس العسكري، وخُرُوج ثلاثة أعضاء من ذات المجلس، ومن ثم بدأت المُفاوضات الماراثونية بين الطرفين التي تعثّرت الآن، لدرجة ظُهُور وساطة خارجية, عليه فإنّ المجلس العسكري وقُوى الحُرية والتّغيير هما فرسا رهان التغيير بحكم الشرعية الثورية وليس التفويض الشعبي، إذ لا وسيلة للتفويض إلا بانتخابات شعبية.
(2)
تطوُّر الأحداث الذي بلغ مَدَاه في مجزرة العيد الأخير، جعل من قيادتي الثورة العسكري والمدني شركين لدودين، فكان تعثُّر التّفَاوُض، ثُم سُوء الفهم، ثُمّ التنافُس على الرأي العام، ثُمّ الصراع، وبالتالي نزيف النقاط (طبظة من هُنا وطبظة من هُناك)، ثُمّ أخذ الوهج الثوري في التباقص مع الأيام، لدرجة أن أطلقت قيادة الحُرية والتّغيير على شَريكها في التّغيير المُرتقب المجلس الانقلابي بدل الانتقالي، وهدّد الأخير بتجاوُز الأول إلى مُكوِّنات أخرى كانت مُبعدة أو صَامتة بالإضافة لتباقص الوهج الثوري ظهر الخلاف داخل المُكوِّنين المدني والعسكري، وهذا الخلاف سوف يؤدي لهروب الفريقين للأمام مِمّا ينذر بالمَزيد من التّصعيد، فالتصعيد مع حالة الضعف التي اعترت الفريقين وحُدُوث ما يُسمى توازُن الضعف سوف يحرم أيّاً من الفريقين من الانتصار بالنقاط، ناهيك عن الضربة القاضية, إنّه الإرهَـاق غير الخَـلاق وهنا سوف يحدث الفراغ الذي سَوف يُؤدِّي للفوضى وذلك بظُهُور أجسامٍ جديدةٍ ومُتباينةٍ خارجيّة وداخليّة وتعمل بوسائل مُتعدِّدة ومُتباينةٍ.. دنيا السياسة لا تعرف الفراغ، فكلّما حدث مُنخفض تأتي الرياح أقرب مرتفع لتملأ ذلك الفراغ.
(3)
المخرج من الفوضى المُتوقّعة هو أن يستطيع طرفٌ من الطرفين أن يطيح بالآخر ويخرجه من الحلبة وهذا غير مَنظورٍ لحالة الضعف المُشار إليها أعلاه، كما أنّه ليس مطلوباً لأسبابٍ عديدةٍ، أمّا الخيار الآخر هو أن يرجع الطرفان لطاولة التفاوُض ليس الرجوع فحسب، بل لا بُدّ من الاتّفاق ولو بطريقة تجرُّع السم، فإذا أدرك الجميع أنّ الحصة وطن سوف يسهل تجرُّع السم من أجله، هذا لو كانوا يبصرون وآهـ ثُمّ آهـ وألف آهـ يا وَطَـن!!