(تكلم حتى أراك) عبارة منسوبة للفيلسوف سقراط، ولاطلاق سقراط هذه العبارة روايتان، تقول احداهما إن رجلا جاء إلى سقراط يتبختر في مشيته ويتباهى بجمال هيبته وأناقة مظهره، فقال له سقراط (تكلم حتى أراك)، ويقصد الفيلسوف اليوناني بمقولته هذه أن قيمة الإنسان لا تكمن في مظهره الخارجي، بل فيما يحمله من أفكار ويحوزه من معرفة يعبر عنهما بالكلام، فيما تقول الرواية الأخرى أنه في إحدى المرات قام تلاميذ سقراط بطرح اسئلة عليه فأجابهم جميعا إلا واحدا لم يسأله، فانتظر أن يطرح عليه سؤالا، ولكنه لم يفعل، فالتفت إليه سقراط وقال له (تكلم يا هذا حتى أراك)..وفي المعنى ذاته يقول الفاروق عمر رضي الله عنه (أظل أهاب الرجل حتى يتكلم، فإن تكلم سقط من عيني، أو رفع نفسه عندي)، ويقول الامام علي كرم الله وجهه (الرجال صناديق مغلقة مفاتيحها الكلام)..ومؤدى كل هذه المقولات المأثورة أنك اذا أردت أن تعرف قدر امرئ ومدى علمه ومستوى أخلاقه، فعليك أن تصغي السمع له وتتلمس من وراء كلماته التي ينطق بها حقيقة أمره، فإذا كان المتحدث غبيا عييا لا يحسن القول بل يهرف و(يطربق)، فالمتلقي يملك عقلا ورجاحة يميز من خلالها بين الصواب والخطأ، بين المحتوى الجاد والمحتوى العبثي، بين الطرح القيم والطرح الهابط، فقيمة الإنسان فيما يملكه من أفكار بناءة ومعرفة واسعة وخلق رفيع، لا فيما يحوزه من مال أو جمال أو سلطة ونفوذ، وعلى خلاف ذلك ما يتوهمه بعض من تراهم مزهوين منفوخين نافشي ريشهم كالطواويس، حتى تظنهم من أهل الوعي والادراك والفهم العميق، ولكن حالما يتكلموا تنكشف حقيقة أنهم لايعدوا أن يكونوا مجرد بالونات منفوخة تعلوها رؤوس فارغة..
تذكرت كل هذه المقولات الحكيمة وأنا أتابع بحزن وأسى مثل غيري ما يدور هذه الأيام من تلاسن وتراشق بالعبارات وتبادل للاتهامات بين المكونين المدني والعسكري، المفترض أنهما شريكان لادارة الفترة الانتقالية في ظل أوضاع في غاية التعقيد والهشاشة وتتطلب أعلى درجات التناغم والتنسيق والتلاحم بينهما، ولو كان حدث ذلك بالفعل لاستحقت ان يقال فيها ما ظل يردده رئيس الوزراء حمدوك حول أنها شراكة نموذجية يقدمها السودان لكل العالم، ولكن للأسف وضح أنها شراكة معطوبة ومعيبة ولايمكن أن تستمر بكل تشوهاتها التي انكشفت حين تكلموا وجهروا ب(المغتغت وفاضي وخمج) فرأيناهم على حقيقتهم على رأي سقراط..فما يحدث هذه الأيام بين المكونين المدني والعسكري لابد من لملمته ومعالجته عاجلا بالرجوع الى منصة التأسيس المتمثلة في الوثيقة الدستورية، لترسيم الحدود الفاصلة بدقة بين ماهو للمدنيين وما هو للعسكريين، وعلى الجميع مدنيين وعسكريين أن يحسنوا تقديم أنفسهم للآخرين، باختيار الكلام المفيد والنقاش الهادئ والعبارة المريحة، من دون تراخ أو تمييع، ولا انفعال أو شطط.. ويظل المهم ألا يتعصب أحد لرأيه جازما أنه هو الأرجح لسبب بسيط وهو أن الحقيقة لا يملكها أحد، أما ما يحصل بينهما اليوم وبالطريقة التي يحصل بها سيودي بالبلاد الى قاع الهاوية، صحيح أن الحوار الجاد والمكاشفة والشفافية من مطلوبات التعافي واصحاح واصلاح العلاقة بينهما، ولكن ليس بالطريقة والأسلوب المستخدم الآن، فهذا اسلوب لا علاقة له بالحوار انما هو أقرب للتكايد، فالحوار الحقيقي يرتكز أساسا على الحنكة والحكمة وطول النفس وتسمية الأشياء بمسمياتها..
الجريدة