عكَسَ المؤتمر الصحفي الذي عقده وزير المالية د. إبراهيم البدوي أمس الأول الخميس بوكالة السودان للأنباء الرسمية (سونا)، عكس وجهاً جديداً من أوجه الفوضى والبربرية التي تتجاوز كل ضوابط عقد المؤتمرات الصحفية وأهدافها، كما كشف حالة فوضى تستبطنُ سلوكاً غير حضاري يتناقض تماماً وطبيعة ثورة ديسمبر المجيدة الموصومة بثورة الوعي والاستنارة في السودان لكون أنها تحت قيادة شباب متحضر ومستنير مازال معتصماً بسلميته وهدوئه ووعيه، ولهذا يرى أكثر من مراقب سياسي أن أي جنوح وانفلات بما يتناقض وسلمية الثورة ووعيها وانضباطها يمثل صفعة تخصم منها الكثير ويظل في موضع شبهة وسؤال كبير: من وراء جر الثورة إلى الإنحراف والفوضى والبربرية وحالة اللاوعي.
استنكار واسع:
واستنكرت الأوساط السياسية والإعلامية على حد السواء الجنوح الذي اصبح ثمة بارزة في عقد المؤتمرات الصحفية التي عادة ما تتحول إلى ملاسنات ومشادات ومخاشنات كلامية تنتهي بهرج ومرج وحالة من البلبلة والارتباك في الساحتين السياسية والإعلامية، وذلك بسبب التساهل والتجاوز الذي يسمح للنشطاء السياسيين ورواد مواقع التواصل الاجتماعي وأصحاب الأجندات السياسية، بحضور تلك المؤتمرات كما لو أنهم صحافيون وإعلاميون، يمارسون حقاً مغتصباً في ممارسة السجال والمهاترات مع المنصة على نحو يطمس هوية وأهداف المؤتمر الصحفي، ويصادر حق الصحافيين في طرح الأسئلة المهنية والحصول على إجابات محددة يبحث عنها الرأي العام، مما يقود إلى إرباك المشهد تماماً وقطع الطريق أمام الإعلاميين والحيلولة دون طرح أسئلتهم.
اغتيالات سياسية:
لم يكن مؤتمر وزير المالية يوم أمس الأول الخميس وحده هو الأول الذي شهد تسلل الناشطين السياسيين وأصحاب الأجندات السياسية واقتحامهم وكالة السودان للأنباء دون سابق دعوة، حيث بدت هذه الظاهرة المزعجة متنامية في الظهور في أكثر من موقع، الأمر الذي قابله الإعلاميون والصحافيون المحترفون باستياء واسع من جهة كونه يمثل تجاوزاً كبيراً في ضوابط عقد المؤتمرات الصحفية التي لا يسمح فيها عادة لأي شخص بالمشاركة فيها إلا بعد إبراز هويته الصحفية، أو أن حضوره ذا صلة بموضوع المؤتمر بعد دعوته دعوة خاصة من الجهة المنظمة، كما أن تسلل الناشطين السياسيين وهواة مواقع التواصل الاجتماعي وأصحاب الأجندات السياسية الأخرى بهذه الطريقة الفوضوية، ينم عن سيولة أمنية ومخاطر تجعل أي مسؤول في الدولة يتردد ألف مرة في عقد أي مؤتمر صحفي مفتوح بهذا الشكل الذي ربما يسمح بدخول قتلة محترفين أو يفتح شهية من يفكرون في إشاعة عدم الاستقرار الأمني والفوضى بتنفيذ اغتيالات سياسية للمسؤولين والاعتداء على إعلاميين، حيث أن هذه الفوضى تشجع الكثيرين وتغريهم لإشاعة فوضى الاغتيالات السياسية.
نماذج أخرى للانحراف:
وما يعكس بصورة أو بأخرى أن هذه الظاهرة أصبحت تتمدد بوتيرة مزعجة، أن عدداً من اللقاءات المقفولة والمؤتمرات الصحفية التي يفترض أن تكون مقتصرة على مندوبي المؤسسات الإعلامية في الداخل والخارج قد شهدت ذات الفوضى والملاسنات والمهاترات التي تكشف أسلوباً بربرياً لا يتناسب ودور الإعلام وضوابط عقد المؤتمرات الصحفية وأهدافها، ولعل من أمثلة ذلك على سبيل المثال لا الحصر: حادث المؤتمر الصحفي الذي عقدته لجان المقاومة قبل ايام، وكذلك الملاسنات والمخاشنة التي لقيها رئيس لجنة التحقيق في فض الاعتصام نبيل أديب من قبل بعض النشطاء السياسيين قبل أيام، وكذلك مؤتمر تجار الذهب الشهير.
هواجس أمنية:
ما يحدث الآن في المؤتمرات الصحفية بات يشكل هاجساً أمنياً لرجال الدولة والإعلاميين على حد السواء، ومن المتوقع أن يكون هذا الانحراف الذي بات يتربص بالمؤتمرات الصحفية ويحول دون تحقيق أهدافها، خصماً على حرية الإعلام، مما يتطلب حسماً فورياً ومراجعة مطلوبة وإعادة نظر عاجلة تقتضي منع دخول غير الصحافيين في مقرات المؤتمرات الصحفية والمشاركة فيها.
السؤال الكبير:
لكن السؤال الكبير الذي يطرح نفسه بقوة: ما أسباب هذا الانحراف وتجاوز ضوابط عقد المؤتمرات الصحفية التي أصبحت مستباحة للنشطاء السياسيين وأصحاب الأجندات ومثيري الشغب والفوضى؟
الإجابة عن السؤال أعلاه لا تحتاج إلى تفكير كثير، حيث بدا واضحاً أن البلاد عانت في الفترة الأخيرة من حالة استرخاء وسيولة أمنية من شأنها أن تخصم كثيراً من هيبة الدولة، هذا الاسترخاء والتساهل الذي جاء بعد كبت استمر على نحو ثلاثة عقود من الزمان فتح الباب واسعاً أمام حالة الفوضى التي بدت عنواناً بارزاً ليس في مجال الإعلام وحده وقاعات عقد المؤتمرات الصحفية، بل مدّ أذرعه الأخطبوطية ليتسلل إلى شتى مناحي الحياة والمجالات، حيث لم يترك الأسواق وقطاعات المواصلات ومؤسسات استيراد وتوزيع واستهلاك السلع الاستراتيجية مثل الدقيق والوقود والدواء وغيرها.
ثم يبقى القول أن ما يحدث الآن من ظاهرة تحول المؤتمرات الصحفية إلى مناشط سياسية ومنصات لممارسة معارضة المهاترات والملاسنات لإثارة الفوضى والبلبلة، يحتاج إلى معالجة عاجلة وفورية من جهات الاختصاص.