للعطر افتضاح
د.مزمل ابوالقاسم
الزراعة.. صرخة جديدة “2”
* الزراعة مثل الصلاة، مواقيت لا يصِح من دونها الزرع ولا يصلح، فالقمح مثلاً يزرع في الشتاء، والذرة والسمسم وأمثالهما يغرسان صيفاً، حتى السقيا والتسميد والحصاد لها مواقيت معلومة لأهلنا، الذين يمتهنون الزراعة بخبرةٍ ودرايةٍ فطريةٍ، يتوارثونها كابراً عن كابر.
* ذكرنا قبل يومين أن واحدة من أبرز العقبات التي تعترض سبيل الزراعة، وتعوق تطورها، وتحِجِّم من منتوجها الكلي في الاقتصاد تتمثل في إحجام القطاع المصرفي عن تمويل صغار المزارعين، أو تعجيزه إياهم على الأصح، بمطالبتهم بضمانات للسداد، لا تتوافر في الغالب لطالبي التمويل على زهد قيمتها.
* الحقيقة أن ذلك التمنُّع المؤذي يمتد إلى كل قطاعات الإنتاج، لأن القطاع المصرفي في بلادنا مُصمم في أصله لدعم الأثرياء، وتمويل المقتدرين، الذين يستطيعون بذل العقارات القيِّمة، وتوفير الضمانات الغالية للقروض التي يأخذونها.
* تلك السياسة العرجاء حصرت التمويل المصرفي في أعداد قليلة من المستفيدين، وأمالت أموال البنوك لمن عندهم المال، فانعكست سلباً على المنتجين الحقيقيين، سيما في قطاع الزراعة، الذي تبلغ فيه نسبة صغار المزارعين حوالي 65 % من مجمل المشتغلين بالزراعة في وطننا المنكوب بسياساتٍ عرجاء، وحكومات حولاء، لا تنظر أبعد من أرنبة أنفها المعقوف، وذراعها المغلولة.
* حتى المحاولة الوحيدة التي اتسمت بالجدية، وحاولت أن تقيل عثرة صغار المنتجين ببرنامج التمويل الأصغر تراجع مفعولها، واضمحلَّ أثرها بمرور الزمن، تبعاً لاضمحلال قيمة التمويل بسبب الأزمة الاقتصادية، والغلاء الذي سيطر على الأسواق، وتراجع قيمة العملة الوطنية في مواجهة الدولار الجبَّار، فصار مبلغ التمويل الأصغر بالغ الصِغر، لا يُرى بالعين المجردة في السوق، ولا يسمن ولا يغني من جوع.
* قد يقول قائل إن البنوك مُحِقَّة في طلب الضمان، ومضطرة إلى الحرص عليه، لصون حقوق المساهمين والمودعين من الهدر، وإنها لا تمتلك سبيلاً غيره لبلوغ تلك الغاية، وإن بذل التمويل بلا ضماناتٍ كافية يحوي تفريطاً قد تُلام عليه المصارف حال عجزها عن تحصيل ما بذلته لصغار المنتجين، ونردُّ على ذلك الزعم بأن الحاجة أُمُّ الاختراع، وأن أغنى الأغنياء من لم يكن للبُخل أسيراً، لأن حصر التمويل على الميسورين أدى إلى إضعاف الإنتاج، وتسبب في انكماش الاقتصاد، وأضعف القطاع المصرفي نفسه، مثلما آذى الاقتصاد الكُلِّي، وأصابه بفقر الدم.
* الدولة مطالبة عبر المصرف المركزي ووزارات المالية والزراعة والتجارة بأن تتدخل لاجتراح حلول جديدة لمعضلة تراجع قيمة التمويل الأصغر، ومدعوة لأن تساعد البنوك وتحضها على ممارسة دورها الوطني، لمضاعفة الإنتاج بدعم صغار المنتجين.
* هناك تجارب بالغة الروعة، لرجال أعمال أفلحوا في تحقيق مكاسب مرموقة، ساعدوا بها الآلاف من المزارعين على تحسين دخولهم، عبر برامج الزراعة التشاركية، مثلما فعل معاوية البرير في النيل الأزرق وسنار، ووجدي ميرغني وعبد الحليم المتعافي في النيل الأبيض، عندما ساهموا في تمويل المزارعين بضمان محاصيلهم، فأنتجوا وأفادوا واستفادوا.
* يقولون في المثل (ازرع يوم تأكل)، ونحن نأكل خبزاً تدعمه الدولة بستمائة وثمانين مليون جنيه كل صباح ولا نزرع مقابله مِعشار ما يغطيه، وذلك يعني أننا نأكل في حقيقة الأمر من سنام الأجيال المقبلة، لنورثها العَوز والمسغبة، ونهيل التراب على مستقبل أهلنا وبلادنا.
* لا حل لاقتصاد السودان، ولا فرج لأهله بمعزل عن الاهتمام بالنشاط الذي يمتهنه غالب أهل السودان، ولا يوجد مستقبل للزراعة بمعزل عن التمويل، وعلى الدولة والمصارف أن تقتفي آثار رجال الأعمال الذين قدموا لها مثلاً يحتذى في تمويل صغار المزارعين، كي تفيدهم وتصلح حالها المائل، وتفرِّج كُربة الاقتصاد المنهار