أرسل لي أحد الأصدقاء رواية بقلم ضابط الشرطة السابق (نزار الحميدي)، يحكي فيها قصة حقيقية حدثت عندما كان في الخدمة وكان أحد أبطالها، وهي جديرة بالقراءة والتأمل.
يقول (نزار): وأنا ملازم بمباحث أم درمان، كنا في العادة نتفقد نقاط الشرطة ونراجع دفاتر الاحوال فيها.
ذات يوم بنقطة الموردة وهي عبارة عن كشك توتو كورة (بعد حلها)، وكنت جالسا أمام النقطة في كرسي مستمتعاً ببداية شتاء وبرودة خفيفة، أتى عم ابراهيم، ذلك الرقيب الذي أفنى زهرة شبابه في الشرطة، ممسكاً بدفتر الأحوال وأعطاني اياه لأراجع (القيود) ، فراجعتها ووجدت أحوالهم هادئة.
أعطيت ظهري للشارع ونظرت شرقاً تجاه النيل، فاسترعت انتباهي عربة صغيرة تقف على مقربة من الشاطئ، فقمت ومشيت نحوها، وعندما وصلتها شاهدت منظراً غريباً.. رجل ستيني يضع على حجره فتاة لا تكاد تبلغ السادسة عشر عاماً!
عندما ما شاهدني ارتبك، ونزل هو والفتاة من العربة في حالة اضطراب ظاهر . كان حينها عم ابراهيم بزيه الرسمي قد وصل ووقف بقربي، فذهبنا اربعتنا للنقطة، وقلت لعم ابراهيم “دخل الراجل ده جوه”، وجلست على الكرسي خارج النقطة أتأمل تلك الفتاة الناحلة .. سألتها ده منو وانتي منو؟
أجابت بصوت مرتعش .. “ده أبو صاحبتي في المدرسة، وأنا بمشي ليها في البيت بشرح ليها الرياضيات لأنو أنا الأولى بتاعت الفصل، ونحن في تانية ثانوي وأبوها ده مغترب جه من السعودية، وصَّلني المرة الفاتت، وبدأ يمسك يدي ويضمني عليو، أنا زعلت لكن المرَّة دي جاب لي هدايا ونحن ناس مساكين”.
سرحت بعيد وصدري يغلي من الغضب، ناديت عم ابراهيم قلت ليو .. “شيل عشرة جنيه من الزول الجوه ده، ووقِّف تاكسي واخد نمرته، وخلِّي يوصل البت دي بيتهم، ونادي لي الزول ده”.
أتى الرجل وجلس في المسطبة أمامي على الارض .. كانت أعينه زائغة ويرتعش كله، تكلم بصوت خافت .. ” أنا يا جنابو أخصائي في السعودية، جيت اجازة” .. قبل أن يكمل قلتُ ليو بحدة ونبرة يشوبها الغضب .. ” اسمع كلامي البقولو ليك ده واتخيل السيناريو ده .. لو فتحنا بلاغ، بنوديكم الاثنين الكشف الطبي، وبنتك ما بتمشي المدرسة تاني، وزوجتك ما بتقدر تطلع الحلة واحتمال تطلب الطلاق، ولو عندك بنات متزوجات بتكسرهم قدام نسابتهم وممكن يطلقوهن، ولو عندك ولد داير يتزوج ما بدوهو لأنك ابوه، ولو عرفو أهل البت المسكينة بالقصة دي، احتمال يحصل موت .. ده عرض ما لعب، ودي بت قاصر، وجايز تنحرف بعد تصرفك معاها، وإحتمال تسوق بنتك في الطريق ده مادام هي صاحبتها وانت بتكون في السعودية ما جايب خبر”.
قلتُ له: “شفت عشان الناس الذكرتهم ليك ديل كلهم الما عندهم ذنب في جريمتك دي، قوم امشي سوق عربيتك، وفكِّر في كلامي ده” .. وأنا أتحدث تذكرت ما درسته عن العقوبة المتعدية التي لا تتوقف عند الجاني وحده، بل تتعداها لأبرياء لا ذنب لهم!
ذهب الرجل بين مصدق ومكذب، التفتَ اليَّ عم ابراهيم، وقال لى “والله يا جنابو تصرفك ده ضابط كبير ما بعمله، بارك الله فيك”.
عندما حضرت الى المكتب في اليوم التالي، وجدت الرجل ينتظرني وقال لي بعد ان جلس أمامي ” أنا من أمبارح ما نمت، رغم صغر سنك أديتني درس لن انساه طول حياتي”. وهو خارج، إلتفتَ الي وسألني: “عمرك كم؟”، قلت ليو: ” القصة ما عمر، بس ان شاء الله يبقى ليك درس، وكان ممكن تلقى ضابط يبهدلك”!
وبالفعل، عندما حكيت ما حدث لزميل أعلى رتبة، قال لي ..”انت مصلح اجتماعي كان تفتح بلاغك بلا فلسفة بلا وعظ”!
انتهت القصة، ولكن .. هل كان الرجل فعلاً يستحق العفو .. أم العقاب ؟!