الآن بعد انتقال فعاليات التفاوض إلى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، ليس فقط بين وفد من قوى إعلان الحرية والتغيير وقادة الجبهة الثورية التي يفترض أنها ضمن مكونات الحرية والتغيير، بل وبمشاركة الوسيط الأمريكي دونالد بوث ووسيط الاتحاد الأفريقي ولد لبات والإثيوبي محمود درير الذين انتقلوا إلى هناك أيضا لمواصلة وساطتهم، وبهذا الانتقال من الخرطوم إلى أديس، يكون قد تم نصب ثلاث منصات ومنابر للتفاوض الذي ينقل المتفاوضين إلى مرحلة الانتقال، فغير المنصة التفاوضية الرئيسة التي تجمع قوى الحرية والتغيير بالمجلس العسكري، وغير منصة العاصمة الإثيوبية، هناك أيضا منصة فرعية داخلية تجمع بين الممانعين والرافضين لتوقيع الاتفاق السياسي بالموقعين عليه والمؤيدين له وكلاهما للأسف ضمن مكونات الحرية والتغيير، وهذه والله دوشة تفاوضية تسبب للمتابع والمراقب من أمثالنا (لفة راس) دعك من أن تصيب عملية الانتقال نفسها بخمة نفس وسكتة قلبية، فالأمور تظل معلقة تماماً على رقبة هذه التفاوضات الثلاث، ومن كثرة ما ترددت مفردة (تفاوض) هذه الأيام، حتى حسبنا أنه بمجرد جلوس المتفاوضين إلى بعض، ستنحل تلقائياً – بضربة لازب – كل عقد البلاد ومشكلاتها وقضاياها المعقدة، ولكن للأسف فكل جولات التفاوض التي تمت بكل أشكالها وأنواعها وبالأخص تلك التي انتهت إلى توقيع الاتفاق السياسي، لم تفض إلى وضع البلاد على عتبة المرحلة الانتقالية وتنقذها من سيناريو مرعب يتهددها.
صحيح أن التفاوض والحوار الوطني حول أي قضية أو قضايا، أسلوب حضاري، ولكن شريطة أن يكون وسيلة لغاية وليس هدفاً لذاته، بمعنى أن يكون التفاوض من أجل كسب الزمن أو إهداره، ويُشترَط فيه أيضاً أن تكون أسسه واضحة وأطرافه متفقة على القضايا موضوع التفاوض، ونية الطرفين منعقدة فعلاً للبحث الجدي عن حلول ومخارج عملية للمشكلات والقضايا المتفاوض حولها، فإذا استوفى التفاوض هذه الشروط عندها يكون هو التفاوض المطلوب المنتج والمثمر والمحمود، أما بغير ذلك فلن يكون سوى (طق حنك) أو تفاوض طرشان محكوم عليه بالفشل، ولن يورث شيئاً سوى ضياع الوقت وتأزيم ما هو متأزم أصلاً، وإن كان مثل هذا التفاوض مجرد تكتيك لفرض الأمر الواقع أو استغلال (شكلانيته) لتمرير سياسات أو قرارات معينة، فلن يعدو أن يكون ذلك سوى متاجرة به، وسيبدو معه المتفاوضون وكأنهم يمارسون تجارة (أم دَوَرْوَرْ)، و(أم دورور) لمن لا يعرفها، هي تجارة شعبية متنقلة لا يستقر لها مقام، كل يوم في منطقة على مدار الأسبوع ولها شهرة وذيوع وانتشار خاصة في أرياف كردفان ودارفور، وفي أسواق أم دورور التي لا يحكمها ضابط ولا رابط ولا تتحكم فيها محلية، تجد أن كل شيء متاح ومباح حتى (المريسة) تحتل مكانها بين المعروضات لذة للشاربين، وتجد فيها من يجمع بين التجارة والصيدلة يبيع (الكول والمرس) جنباً إلى جنب كبسولات المضادات الحيوية وراجمات الملاريا، وآخر يمارس الطبابة إلى جانب التشاشة فتجد عنده العقاقير البلدية من عروق وقرض وحرجل وخلافها وأكوام البصل والتوم والشمار وما شاكلها، وثالث يمزج بين عمل الحلوانية وتجارة السلاح، من أراد النبق والدوم والقضيم واللالوب يجد عنده ومن أراد الجبخانة فالمخلاية مليئة بأشكال وألوان منها، ورابع يزاوج بين العطارة والكيف تفوح من محله رائحة النشوق والتمباك وهي مختلطة بروائح فليردمور والريفدور و(ون مان شو)، وهكذا يختلط الحابل بالنابل والمنتهي الصلاحية بالساري المفعول في هذا السوق العجيب.. وغاية الرجاء والأمل في التفاوضات الثلاثة الدائرة الآن أن تكون جادة ومثمرة ومنتجة للحلول المتوافق والمتراضى عليها، لا أن تكون مجرد دورة أخرى في ساقية المفاوضات المدورة.