لم أكن من المتفائلين كثيرا بالحوار غير المباشر وغير الرسمي الذي جمع الإنقلابيين وقوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) عبر الوساطة الامريكية السعودية، ولعل السبب يعود لقناعتي الراسخة بأن من إستباح البلاد طولا وعرضا قتلا وتجويعا وتشريدا، (لا أمان له)، ولن يكن من السهل عليه الإستسلام ورفع الراية.
سيجتهد مع الضغوط الجماهيرية الداخلية والحصار السياسي والديبلوماسي الخارجي من جميع الإتجاهات، في تطويل أمد التفاوض أملا في كسب المزيد من الوقت لإيجاد مخرج يقيه النهاية الحتمية، ولن يتوقف خلال هذه الفترة عن ممارساته اللا أخلاقية التي إعتادها من تنكيل وتعذيب وإعتقال وقتل وممارسة جميع الموبقات بحق شعب أعزل يحكمه بقوة السلاح.
حتى الحرب تتخللها هدنة، ولكن (التتار الجدد) لا يعرفون أدب ولا أخلاقيات الحروب، والتفاوض الذي أعنيه وإرتضاه عدد غير قليل من أبناء الشعب السوداني، هو (التفاوض غير المشروط على كيفية وضع السلاح أرضا ووضع حد للفوضى التي تمارسها القوات النظامية وغير النظامية المنتشرة في كل شبر من ارض الوطن وتسليم السلطة للمدنيين كاملة غير منقوصة).
لأنه وفي ظل الفوضى وحالة اللا دولة التي تعيشها بلادنا الآن، ورغم تدفق الآلاف يوميا في الشوارع في مواكب مستمرة غير عابئة بالآلة العسكرية القمعية التي حصدت المئات ولا زالت أمام شعب أعزل إلا من (السلمية) كان لابد من إيجاد مخرج لوقف نزيف الدماء، ولعله من حسن طالع الشعب السوداني تزامن إستمرار الغضب الشعبي مع إندلاع الحرب الروسية الاوكرانية التي عجلت بنقل أكبر الفاعلين السياسيين الدوليين والإقليميين من خانة (المتفرجين إلى خانة اصحاب المصلحة)، فكانت الآلية الثلاثية التي فشلت حتى الآن في مهمتها، اعقبها التدخل الديبلوماسي من جانب الولايات المتحدة الامريكية والمملكة العربية السعودية بعد أن وضح أن الصراع الإقليمي والدولي اخذ اتجاهًا ها آخر، تباعدت خلاله الرؤى بين بعض الحلفاء الإقليميين والدوليين، (أمريكا، مصر، الإمارات، السعودية).
إندلاع الحرب الاوكرانية، وإستمرار النظام السوداني في دعم الجانب الروسي كان هو المؤشر القوي لهذه التحركات، فكان من الطبيعي إستبعاد الإمارات ومصر من منطقة التأثير على الأطراف السودانية لصالح الرؤية المشتركة السعودية والأمريكية.
شخصيا لست من الذين يعولون على الخارج كثيرا، ولكن ومن واقع المصلحة المشتركة بين المكونات المذكورة، ورغبتها في تعديل موازين الصراع بما يعود بالفائدة على مصالحها ومصالح حلفاؤها الإقليميين والدوليين، كانت رؤية الكثير من السودانيين بالإلتفاف حول كل ما يمكنه ان ينهي هذا الوضع الذي سيقود البلاد للإنهيار الذي بات وشيكا.
ما دعى لذلك عدة اسباب، أهمها التباين الصارخ والصامت بين الموقف الإماراتي والسعودي تجاه الوضع في السودان، خاصة فيما يتعلق بالبحر الأحمر وموانئه، والوجود الروسي المحتمل بإنشاء قاعدة عسكرية داخل البحر الأحمر، وهو احد الوعود التي قدمها نائب رئيس مجلس السيادة الانقلابي وزعيم مليشيا الجنجويد (حمدان دقلو) في زيارته لروسيا التي تزامنت مع الهجوم الروسي على أوكرانيا، كل ذلك من الطبيعي جدا أن يقلق مضاجع الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، فالتنافس المحموم على البحر الأحمر وموقع السودان كعمق إستراتيجي لدول القرن الافريقي ومصالح روسيا وحلفاؤها في المنطقة، بجانب النهب الممنهج لموارد السودان خاصة الذهب وما يعنيه لروسيا في ظل الحصار الإقتصادي المفروض عليها من الولايات المتحدة والإتحاد الأوربي، كل ذلك وغيره من أسباب أدت إلى المبادرة الامريكية السعودية لحل الأزمة السياسية بالسودان وإسقاط النظام الحالي (بعسكره وجنجويده وكيزانه) وإبعاده نهائيا عن المشهد السياسي وبأقل الخسائر.
المواجهات الإقليمية والدولية الخشنة التي شهدها العالم مؤخرا عجلت بظهور قوي للفاعلين الإقليميين والدوليين بغرض حماية مصالحهم مع تراجع فاعلين أخرين مثل الأمارات ومصر.
لذا من المستحسن أن يستغل شركاء الهم الوطني في السودان ممثلا في القوى السياسية المناهضة للإنقلاب، والشارع ممثلا في لجان المقاومة وغيرها من كتل ثورية مناهضة للإنقلاب، إغتنام الفرصة ليتكامل الجهد الشعبي مع السياسي لإسقاط الإنقلاب وإنهاء سيطرة العسكر وعودته النهائية للثكنات وطي صفحة ما تٌسمى بحركات الكفاح المسلح التي وضح تماما أنها مجرد مجموعات إنتهازية لا علاقة لها بالمكونات التي تمثلها، والسعي الحثيث لوضع حد لجماعة الإسلام السياسي من مؤتمر وطني وغيرها من مسميات وتصنيفها كجماعات إرهابية لا يحق لها ممارسة أي نوع من أنواع العمل السياسي وإلى الابد، والفرصة مواتية لتحقيق كل ذلك متى ما قدمنا المصلحة العامة فوق المصالح الذاتية والحزبية، ومتى ما أسقطنا عبارات التشكيك والتخوين فيما بيننا، حتما سيكون النصر لشعبنا.