-1-
لدكتور عبد اللطيف البوني مقدرةٌ مائزةٌ في تقديم الأفكار المُعقَّدة في قالبٍ بسيط وأنيق، يجمع المعنى المُراد ويمنع ما دونه من شوارد غافلة.
كتب البوني قبل أسابيع مقالاً بديعاً بعنوان (من الثورة للدولة)، وأشار فيه إلى الفروقات بين الثائر ورجل الدولة.
جاء في عمود البوني، أن أيَّ ثورة في الدنيا لا بُدّ لها من شرطٍ ذاتي ويتمثل ذلك في القيادة، وأيِّ ثورة بدون قيادة تَعني الفَوضَى، وقيادة الثورة لا بُدّ أن تكون صادقةً وقادرةً على مُخاطبة العقول والمشاعر بدواعي الثورة، فالناس لن تنقاد إلا لقيادة مُقنعةٍ، ولكن قيادة الثورة ليس بالضرورة أن تكون هي قيادة الدولة، فقيادة الدولة مُتطلباتها غير مُتطلبات قيادة الثورة.
-2-
ما حدث من خلافٍ ونزاعٍ داخلَ قوى الحرية والتغيير حول اختيار ممثليهم في مجلس السيادة أمرٌ مُتوقَّع.
وبكُلِّ تأكيد سيكون الوضع أصعب عند الشروع في اختيار الوزراء، وسيصل إلى مستوىً أكثر تعقيداً في اختيار أعضاء المجلس التشريعي.
تحالف قوى الحرية والتغيير، مُتعدِّد الأطراف والجهات، مع وجود فوارق جيلية وعمرية بين مُكوِّناته.
وأكبر عاملٍ مُؤثِّرٍ على التفاعلات السياسية داخل التحالف، عدم وجود قيادة موحدة معروفة بالاسم والعنوان.
الأهم من كُلِّ ذلك، انكسار الحاجز الرابع بين الجمهور الثائر وخشبة المسرح السياسي.
-2-
نعم، لم يعد هناك مطبخٌ سياسيٌّ مُغلقٌ على قيادات عليها إعداد الطعام، وتقديمه لآخرين يجلسون على الطاولة.
لم تَعُدْ هناك حواجز فاصلة بين الجمهور والقيادة، جهة تأمر وجهة تُنفِّذ، جهة تقرر وأُخرى تستجيب.
بات عليك حتى تكون قائداً فعلياً بالوصف والمعنى، أن تكون ذا منطقٍ وحُجَّة، تُقنع قبل أن تأمر.. وأن تقرأ توجُّهات وميول القواعد قبل أن تقطع في ما يهمهم وتختار من يُمثِّلهم.
-3-
ليس بإمكان الثوار أن يختاروا ممثليهم في مجالس الحكم (السيادي والتنفيذي والتشريعي)، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولكنهم في حاجة لقيادة سياسية يثقون بها ويطمئنون إلى قراراتها، وإذا اختارت نيابة عنهم أذعنوا لها ورضوا.
الملحوظ أن الأسماء التي تمَّ اختيارها لمجلس السيادة، أُلقيت على قارعة الأسافير دون سيرٍ ذاتية ولا معلوماتٍ تعريفية.
لم يخرج قياديٌّ واحدٌ من قوى التغيير، ليُدافع عن هذه الاختيارات ويشرح طريقة الاختيار على ضابط الكفاءة، ولماذا فُضِّل فلانٌ على فلان؟!
-4-
ولعدم وجود قيادات لها مقدرة على الإقناع بالاختيارات، حدث الارتباك والاضطراب، وبات بإمكان تغريدة واحدة وبيانٍ من فرع مهني، أن يُغيِّر في اتجاه الاختيار.
في السابق، كان البشير وحده ومن هم في دائرته الصغرى يتخذون قرارات الإقالة والتعيين، فلم يجنوا سوى الفشل.
الآن انتقلنا إلى النقيض، اتَّسعت دائرة اتخاذ القرار بصورة تُقارب الفوضى؛ فليس الحل هو الانتقال من ضيق دائرة اتخاذ القرار إلى سعة مُفرطة.
-5-
وإذا ظل الوضع على هذا الحال من السيولة والهشاشة وعدم وجود القيادة القادرة على الإقناع والدفاع عن الاختيارات والقرارات؛ ستُدار الدولة بصورة عبثية تفتح الأبواب الخلفية لانقلابيِّين جدد، ينتظرون جثة الثورة على الضفة الأخرى من النهر.
يُعرِّف الرئيس الأمريكي هاري ترومان القيادة بأنها: القدرة على ترغيب وإقناع الرجال بالقيام بما لا يرغبون في القيام به.
-6-
كان بإمكان تجمع المهنيين عبر صفحته بالفيسبوك، أن يضع جداول مواكب التظاهرات في الميقات الزمني المُحدَّد، واختيار طرقات السير.
ذات الفاعلية والسلاسة التي قاد بها الاحتجاجات إلى مقصدها النهائي وهو سقوط النظام؛ لن يستطيع أن يُدير بها شؤون الحكم.
إذا لم تكن هناك قيادة مقنعة ذات حجة ومنطق ومؤثرة، ولها رصيدٌ وافرٌ من الثقة لدى الجمهور الثائر؛ فلن تكون هناك فترةٌ انتقاليةٌ ناجحةٌ تُؤسِّس لانتقال ديمقراطي آمن.
الثوار فعلوا ما عليهم، وهو إنجاز الأصعب: إحداث التغيير بتكلفة إنسانية باهظة.
الآن جاء دور القيادة السياسية في تحويل الثورة إلى برامج عمل، والشعارات إلى شعائر وطنية تُغيِّر الواقع إلى ما هو أفضل.
-أخيراً-
نعم هذه المُهمَّة لن تكون سهلة ويسيرة، بل هي صعبة ومُعقَّدة، تحتاج إلى صبر ودأب وطاقة نفسية كبيرة، وقبل ذلك، إلى قيادة بقامة التحديات، قيادة تُدافع عن قراراتها بكُلِّ قُوَّة وثبات، ولا تختبئ في الزحام.