ما قام به تجار سوق ليبيا وهم يودعون كدفعة أولى )٥٠٠( مليون جنيه بالمصارف السودانية، هو عمل وطني عظيم ومقدر يستحقون عليه التحية، لأن الظروف والأجواء غير مشجعة لهذا الفعل ما لم يكونوا قد وجدوا ما هو مطمئن من الضمانات، باعتبار أن الطبيعي في كل بلاد الدنيا أن يودع التجار وأصحاب الأعمال أموالهم وأرباحهم في البنوك، وأصبح غير طبيعي بعد الهزة التي أصابت الجهاز المصرفي بقوة وجعلته فاقداً للتوازن وأربكت كل حساباته، مما أربك الحالة الاقتصادية برمتها، وأدخلنا في هذا النفق المظلم وهو نفق على الحكومة أن تعترف أنها المتسبب الأساسي والرئيسي في دخولنا إليه، وبالتالي هي المسؤولة عن إخراجنا منه، خاصة وأنها قد تلمست هذه الحقائق بأصوات المتظاهرين والمحتجين الذين نادوا بضرورة حدوث إصلاحات اقتصادية حقيقية، وعلى فكرة هذه المرة الغضب كان في أعلى معدلاته والناس كانت على استعداد لتقديم الكثير ليبدأ الدور الأهم وهو دور القيادة السياسية في أن تبدأ بإصلاح سياسي واقتصادي عميق، ومعظم ما تم من إصلاحات في الفترات الماضية كان عبارة عن عمليات تجميل فاشلة، لأنها قليلة التكلفة تمت على عجل، لذلك لم تستطع إزالة الندوب والتشوهات من جسد الاقتصاد السوداني فاستفحلت فيه العلة ووصل إلى ما وصل إليه الآن من حالة يرثى لها، وبالتالي على الحكومة وبأجهزتها المختلفة أن تستمع للشارع السوداني الذي أصبحت مطالبه واضحة، وهي على فكرة مطالب أغلبية عكسها من خرجوا متظاهرين ومحتجين وهم بالضرورة ينوبون عن الملايين المكتوين بجمر الغلاء وانحدار مستوى العيشة والمعيشة، وهي ذات المطالب التي جعلت الشارع ينتفض في سبتمبر، ولم تعِ الحكومة يومها الدرس ومشت على ذات الدرب ليتكرر السيناريو في ديسمبر، وما أشبه الليلة بالبارحة، لنطرح السؤال المهم: هل ستتعظ الحكومة من الدرس الأخير وتبدأ في طرح معالجات اقتصادية وسياسية قاسية تقنع بها المواطن السوداني وتكفينا شر الانزلاق نحو الهاوية التي ما وصلنا إليها إلا لأن النظام الحاكم ما عاد يسمع إلا نفسه، وقد رهن أذنه وسمعه لمجموعة هتيفة ومستفيدين حجبوا عنه نبض الشارع وأفقدوه الإحساس بالآخر حتى جاءت الطوبة في المعطوبة وانتفض الناس مطالبين بمطالب هي أولويات ما كان يجب أن ترقى لمستوى الاحتجاج والتظاهر، لأنها حقهم الطبيعي في الحياة، بل هي العادي والمعتاد لأي حكومة تحترم آدمية مواطنيها ناهيك من أن تحجر أو تحجب حقهم في التعبير أو تسكت أصواتهم بالرصاص تحت أي مبررات أو أسباب.
في كل الأحوال لا بد أن تمضي الحكومة في ما بدأته من قرارات تصحيحية، على رأسها إلغاء الإعفاءات الجمركية والضرائب على الشركات الحكومية وأن تمضي الحكومة في تشجيع الصادر وهو ما التزم به رئيس الوزراء “معتز موسى” الذي ليس أمامه إلا المضي في طريق الإصلاح، خاصة فيما يتعلق بالفساد الذي هد حيل البلد، وهذا الطريق تحديداً يحتاج لدعم وإرادة رئاسية، لأن القطط السمان العندنا ما بقدر عليها إلا رب القدرة.
في كل الأحوال نرجو أن تكون الحكومة قد وعت الدرس وواجهت نفسها بالحقائق، لأن إنكارها لن يولد إلا مزيداً من الاحتجاج والتظاهر الذي وإن ترك على هواه سترتفع سقوف مطالبات المحركين له، وما معروف يصل حدها وين، وإن قمعت تكون الطامة والكارثة وبداية الغبائن والثأرات الحتودي البلد في ستين داهية!!
{كلمة عزيزة
بعض الأصدقاء والمشفقين ظلوا ينصحوننا بعدم الكتابة هذه الأيام، ليكون ردي عليهم أن هذه الأيام الصعبة تحتاج لكل أهل السودان، وما نقوله ونكتبه هو من أجل بلادنا وخيرها، ليست لنا رغبة في اقتسام كيكة ولا تذوق حلاوة سلطة، ولن ننافق سلطة ولا سلطاناً.
{كلمة أعز
اللهم أحمِ بلادنا من الفتن وأجمع أهلها على كلمة سواء.