* لا اقصد بهذا العنوان قصيدة الشاعر المعروف واستاذ الادب بجامعة الخرطوم محمد الواثق (أم درمان تحتضر) التي نظمها في ستينيات القرن الماضي ونشرها في ديوان شعرى بنفس الاسم، وهجا فيها مدينة ام درمان وأهلها هجاءً مقذعا ومدح حبيبته الانجليزية (مونيكا) التي صادفها أثناء دراسته في انجلترا، فأثار غضب الكثيرين في مقابل إعجاب الكثيرين، وجاء فيها :
لا حبذا انت يا ام درمانُ من بلدٍ أمطرْتِنى نكداً لا جادك المطرُ
من صحن مسجدها حتى مشارفها خط الخمولُ بها واستحكم الضجرُ
ولا أحب بلادا لا ظلال لها يُظلها النيم والهجليج والعشرُ
ولا أحب رجالا من جهالتهم أُمسى وأُصبح فيهم آمناً زُفرُ
أكلما قام فيهم شاعرٌ فطِنٌ جم المقالِ نبيلُ القلبِ مبتكِرُ
ضاقوا بهمته واستدبروا جزعا صمُّ القلوب وفى آذانهم وقرُ
أكلما غرستْ كفى لهم غرسا كانوا الجراد فلا يُبقى ولا يذرُ
المظهرون بياض الصبح خَشيتهم والمفسدون إذا ما صرَّح القمرُ
الى أن يقول:
مونيكُ كانت لنا أم درمانُ مقبرةً فيها قبرتُ شبابي كالأُلى عبروا
إن الأنيس بها سطرٌ أطالعه قد بتُ اٌقرؤه حتى عفا النظرُ
ثم اصطحبتُ كُميتاً أستلذُ بها وخلت في سكرتي أم درمان تحتضرُ
* لا اقصد القصيدة، ولست معنيا بها اليوم، وقد كتبتُ وكتب كثيرون عنها ولا يزالوا يكتبون، ولاتزال القصيدة تثير الإعجاب والغضب حتى اليوم، الإعجاب بالنظم الشعرى الفلسفي الرائع ، والغضب من الهجاء المقذع لمدينة يعتبرها اهلها والكثير من السودانيين مصدر فخرهم ووحى إلهام شعرائهم كونها المدينة الجامعة التي جمعت كل اهل السودان واحتوتهم بحنوها ومجتمعها الجميل واجتماعياتها التي ليس لها مثيل في مكان اخر!
* وإذا كان (الواثق) قد وصف ام درمان بالمدينة المحتضرة مجازا كونها فقدت بريقها في عينيه مقارنة بالمجتمع الإنجليزي وحبيبته (مونيك)، فإن أم درمان لا تحتضر مجازا الآن، وإنما تحتضر بالفعل وقد تشيع الى مثواها الاخير قريبا جدا إن لم تُنقذ من البحيرة الضخمة التي تجرى تحتها على مسافة أقصر من متر واحد من سطح الارض في كثير من احيائها القديمة المشهورة، من الموردة جنوبا وحتى اقصى شمال ودنوباوى مرورا بالملازمين وبيت المال وحى السيد المكي وودأرو والقلعة وكل المناطق المحيطة بها التي انهارت الكثير من بيوتها ما عدا المشيدة بالإسمنت المسلح، والبقية الباقية في الطريق. وربما في اقل من عام أو عامين يصبح كل ساكنيها على قارعة الطريق إلا القادرين على هدم منازلهم وتشييدها بالحديد المسلح او الرحيل عنها الى مناطق اخرى !
* أما السبب فهو ليس سوى فساد النظام البائد الذى اوكل تشييد شبكة المياه الجديدة للمدينة قبل حوالى عشرين عاما الى شركات غير مؤهلة وبعضها فاسد، فاستخدمت أنابيب توصيل غير مطابقة للمواصفات أو تالفة، تسرب منها الماء تحت الارض وتجمعت بحيرة ضخمة اخذت تكبر يوما بعد الآخر وتغزو مناطق جديدة في اتجاهات عديدة. يقول الخبراء ان التكوين الجيولوجي للمنطقة الذى يتميز في بعض الاحياء مثل حي الملازمين بوجود بنية مائية تحت الارض قد تتسبب في اضرار مشابهة، ليس له علاقة بما يحدث الآن من دمار في ام درمان، ويعزون السبب لتسريب في شبكة المياه الجديدة لأنها الشيء الوحيد الذى استجد في السنوات الاخيرة، ويضيفون أن سلطات النظام البائد سكتت عن هذه المأساة الضخمة حتى لا يطالبها المتضررون بتعويضات مالية، ففضلت الصمت ورؤية البيوت تنهار يوما بعد الآخر على الاعتراف بالذنب واغلاق الشبكة ولو ادى لحرمان عشرات الآلاف من الماء الى حين اكتشاف مصدر التسريب ومعالجته .. وعندما سقط النظام البائد لم يتيسر الوقت للالتفات لهذا الخطر الداهم الذى يهدد مدينة ام درمان بالفناء في وقت قصير إن لم تتداركها السلطات!
* كتب (الواثق) قصيدته المثيرة للجدل (أم درمان تحتضر) قبل اكثر من خمسين عاما ورحل عن الدنيا قبل ان يشهد نبوءته تتحقق على يد الطغاة الفاسدين الذين لم يقتلوا ام درمان فقط، بل قضوا على كل السودان!