(1)
عندما طُلب من الذين يحملون السلاح في جنوب السودان (عشان نتخلّص من حكاية مُتمرِّدين أم ثوار)، الحُضُور الى الخرطوم للاشتراك في مؤتمر المائدة المُستديرة لمُناقشة قضية جنوب السودان في 1965 رفضوا بحجة أن الخرطوم هي سبب كل الأذى الذي لحق بهم، فقيل لهم إن الخرطوم الآن أصبحت عاصمة الثورة، وإن وزير الداخلية من الجنوب، وإنّ الحُرية على قفا من يشيل, أخيراً وافقوا، إلا أنّ القيادي أقري جادين اشترط عدم الإقامة في الخرطوم وذلك بأن يأتي من المطار إلى قاعة المؤتمر ويقول كل ما يود ويرجع, وفعلاً ألقى خطبة نارية لدرجة وصف كل الحُضُور من الشماليين بأنهم أحفاد تُجّار الرقيق، فانبرى له عبد الخالق محجوب قائلاً: فعلاً نحن أحفاد تجار الرقيق، ولكننا الآن نحن هؤلاء الأحفاد نقر بعدالة قضيتكم ونطلب لكم العدالة والمُساواة وجبر كل الأضرار التي لحقت بكم..!
(2)
أمّا مُناسبة هذه الرمية، هي المُحاولات الحثيثة التي تجرى الآن لإيقاف الحرب وتحقيق السلام في السودان، وذلك بالتفاوُض المُباشر مع الحركات المسلحة، وكانت أكبر قيدومة تُقدِّمها الثورة لهؤلاء المُحاربين هو الاعتراف لهم بأنّهم جُزءٌ من الثورة، وأنّ لَهم سَهماً كَبيراً في إسقاط النظام السابق، ثُمّ كان التفاوُض مع بعضهم في أديس أبابا قبل التوقيع على وثائق الفترة الانتقالية، وهنا حَدَثَ خلافٌ حول تضمين مُستخرجات التفاوُض معهم في الوثيقة الدستورية، وحَدَثَ تبادلٌ للتُّهم بالسعي للمُحاصصة في وظائف الفترة الانتقالية، ولكن فيما بعد رحّبت كُلّ الحركات بتولي الدكتور حمدوك لرئاسة الحكومة وكان أكبر اختراقٍ هو مَا حَقّقه مجلس السيادة في جوبا بتوقيع إعلان مباديء مع الحركة الشعبية قطاع الشمال وهي مُوحّدة، وحركات دارفور ممثلة في الجبهة الثورية وتقرر أن تبدأ المُفاوضات للاتفاق النهائي في أكتوبر القادم.
(3)
ما تَقدّمَ أعلاه بشارة خير كبيرة دُون شَكٍّ، لأنّ السَّلام هو مُفتاحٌ لكل مَشاكل البلاد الأُخرى وبِدُونه لن تَتَحقّق تَنميةٌ ولا ديمقراطيةٌ ولا… ولكن ما يستحق التّحفُّظ هو مَكان اِنعقاد المُفاوضات، فجوبا التي هِيَ الآن (جارتنا وبت حارتنا وبنريدها)! ولكنها أضحت عاصمة لدولة مُستقلة، فكان الأوفق أن تكون الخرطوم هي مقر التفاوُض، لأنّ الخرطوم هي الآن عاصمة الثورة الديسمبرية، فكان ينبغي للحلو ورفاقه أن يحتفلوا مع الآخرين بالثورة في الخرطوم، طالما أنّهم جُزءٌ منها.. ووفود التفاوُض عندما تحل بالخرطوم لن تكون (غريبة ديار وغريبة أهل) وبإمكانهم ألا ينزلوا في أي فندقٍ، فجميعهم لديهم منازل وأهل بالخرطوم. في الخرطوم سيكون المُسهِّلون للتفاوض هم أهل السودان نفسه، فكل قادة الحركات لديهم أصدقاء فيها.. في الخرطوم سيرون أنفسهم في أجهزة الإعلام ويخاطبون كل الشعب من خلالها مُباشرةً.. وفي الخرطوم سوف (يَرفعون الفاتحة) في الوفيات التي حَدَثت في غيابهم الطويل، وربما يحضرون بعض الأفراح كما حدث لود لبات.. والأهم من كل هذا أنّ الأجواء الثورية التي وحّدت الجميع سوف تَهب في أشرعة مركب السَّلام. يجب ألا نُقلِّل من شأن مقرات التفاوُض، فدورها كبيرٌ في مُستخرجات التفاوُض.. الذين قرأوا كتاب ليندا جونسون الضخم والذي كرّسته لمُفاوضات نيفاشا سيدركون أن العزلة في نيفاشا، والخواجات المُسهِّلين كان لهم الأثر الأكبر في خُرُوج الاتفاقية بذلك الشكل الذي لحّق السودان أُمّـات طَـه.