هناك فرق
منى ابو زيد
أطول شارب في الإسلام..!
“أقرب موارد العدل القياس على النفس”.. جمال الدين الأفغاني..!
في باكستان – قبل سنواتٍ – كان هُنالك مُواطنٌ باكستانيٌّ مُسلمٌ اشتهر بطول شاربه، وكان يعبر شارع بيتهم في أمان الله، عندما لمحه مُسلّحون من جماعة “عسكر إسلامي” الدينية المُتشدِّدة، فقاموا باعتقاله وأجبروه على المثول أمام رجل دين يثقون في “تشدُّده”، فأفتى فضيلة الشيخ بأنّ شارب الرجل “لا يتلاءم مع الشريعة الإسلامية”. وهكذا قام “عساكر الإسلام” بتنفيذ حُكم الشرع في ذلك المُواطن، وبكلِّ سُرورٍ أقاموا على شاربه الحد..!
لا بُدّ أنّك الآن تبتسم..! أعرفها تلك الابتسامة التي نُطلقها باطمئنان في وجه غرائب الآخرين ونحن نُواجه اختلافنا عنهم بقدرٍ وافرٍ من الظن الحَسن، ولكن هل تعتقد فعلاً أنّ شاربك – أقصد بلادك! – بمَأمنٍ مِن هَجمات أيِّ جماعات عسكر إسلامي مُشابهة لمُجرّد أنك لا تعيش في شمال غرب باكستان؟! لا أقصد أن أفسد عليك مزاجك بأفكارٍ مُتشائمةٍ، ولكنّني أدعوك إلى قراءةٍ ثانيةٍ في الخطاب الإعلامي لدُعاة “التديُّن الشّكلاني” الذين طَالَ صياحهم واستطال نُفُوذهم المُركَّب بين إمامة المنابر وزعامة المَنَصّات السِّياسيَّة..!
يبدو لي أنّ الخطاب الديني والسِّياسي في السُّودان يتنازعه اليوم تياران: تيار “المُحافظين”، وهؤلاء لا ولم تزحزحهم التحولات والمآلات حرفاً واحداً عن قناعاتهم، ولا يأبهون بتجديد خطابهم، فوسيلة إقناعهم عدة أيديولوجية قديمة لا تُريد سلاماً بقدر ما تنشط في إنتاج الأزمات وتصديرها إلى الشارع العام، مُغلَّفة بمحاذير دينية ومزاعم سياسيّة لا تمثل إلا تياراً مُتشدِّداً واحداً يشبه في منهاجه سلاح “العساكر إيّاهم” في مُواجهة “شوارب” عامة المسلمين..!
وتيار “المُجدِّدين” الذي يتعامل تعاملاً نقدياً مع مُتغيِّرات الأوضاع السِّياسيَّة والإقليميَّة ويتصدى لدعوات الرجعيِّين “دعاة الأدلجة في الدين والسياسة” بمبضع التحليل والتفكيك ومن ثَمّ الدحض والتعرية – ليس حباً في المشاجرات الإعلامية بل من أجل إعادة البناء والتركيب – وهؤلاء أنفسهم ليسوا على قلب رجلٍ واحدٍ، ففيهم من ينتقد أشباه “عسكر إسلامي”، وفيهم من يرفض طبيعة “السّلاح”، وفيهم من يُنادي بصمود “الشوارب”..!
التاريخ المُعاصر ملئٌ بالكوارث السِّياسيَّة التي صُودرت فيها الحُريات وانتهكت العدالة باسم الدين، وضجيج الأدلجة في الخطاب الإعلامي للرجعيين الجدد ما زال يعلو ويعلو، حتى يجد المرء نفسه محشوراً في خانة الإنشاء الأدبي و”الكلام الكبار” لتوصيف الكوارث وتشخيص الأدواء، من “هواجس الهوية” إلى “منطق الصِّدام”، ومن “عقيدة الاصطفاء” إلى “تهويمات النخبوية العربية والسيادة الإسلاموية”..!
الشخصيات السِّياسيَّة، الدينية، التي تعيش وفقاً لقناعات وأفكار تحجب عنها رُؤية المنطق والحجة في خطاب الآخرين هي أخطر آفات أدلجة الدين في أيِّ مُجتمعٍ، حيث يدلل غياب الخط العقلاني وشُيُوع الوعيد في أطروحاتها على الخراب العاجل الذي تدعو إليه..!
ببساطة، نحن أيضاً مُسلمون، وأهل الاعتدال في إسلامنا لهم عبارة مُؤثِّرة تقول “لا يؤمن بربوبية القوة إلا شبح الضعف”. وتبقى عظمة النفس الإنسانية في قدرتها على الاعتدال لا التّجَاوُز، فهل – يا تُرى – من مُذَّكِر..؟!