مشاهدة السريحة وهم يجولون بوسط الخرطوم، صار مشهداً عادياً لا يلفت انتباه أحد. شباب وشيوخ أياديهم مليئة بمختلف الفئات النقدية المتنوعة، لا يخشون هجوم المتفلتين ولا عيون السلطات. فتجارة العملات الأجنبية تحقق أرباحاً كبيرة لصغار وكبار التجار، لذلك يخوضون الصعاب لأجل العمل فيها. وصارت تحرك هذه التجارة رؤوس أموال ضخمة لتغطية حاجة السوق الذي يبحث عنها باستمرار، وأسهم عجز البنك المركزي في توفير النقد الأجنبي اللازم، في اتساع دائرة هذا النشاط ودخول الحكومة خلال فترة النظام السابق كأحد اللاعبين الأساسيين له خصوصاً بعد فرض العقوبات الأميركية على البلاد عام 1997، ومآلات انفصال جنوب السودان في 2011م.
وبحسب خبراء ومختصين فإن السوق الموازية تتحكم بمجمل العملية الاقتصادية في البلاد، حيث تحول تجار العملة إلى كتلة اقتصادية مؤثرة في ظل أوضاع غير طبيعية ورثتها حكومة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك من نظام الرئيس السابق عمر البشير، لافتين إلى أن هذه المجموعات نفذت عبر ثغرات اقتصادية حكومية نتيجة عجز البنك المركزي عن توفير النقد الأجنبي لتغطية متطلبات السوق ونفقات الحكومة.
(2)
تمددت المساحة الجغرافية لتجارة العملة مؤخراً وسيطرت على شوارع وأمكنة حيوية جديدة بالخرطوم، بعد أن كانت رقعة البيع تنحصر إلى وقت قريب بين شارعي القضائية والقصر، غير أنها وصلت غرباً إلى شارع الحرية وشرقاً إلى شارع ألمك نمر، ويرى مراقبون انه لاغرابة ان تصل لشارع الغابة أو شارع الفتيحاب، بينما أبدى البعض تخوفهم – على سبيل من المزاح – من أن يجدوا يوما ما تجار العملة يتجولون ويهمسون للمارة فى تقاطع شارع أم بدة كرور مع ليبيا بالخلاء.
(3)
يقول المحامي والكاتب حاتم الياس لـ (الانتباهة أون لاين) ان منطقة وسط الخرطوم ارتبطت بتجارة العملة منذ ثمانينات القرن الماضي ويعود ذلك الأمر بالأساس إلى أنها كانت المركز الحضري للخرطوم وقد احتشدت الفنادق في هذه المنطقة، وكانت (صحارى، إكسلسيور، أكروبول ، فيكتوريا) إلى جانب فندق أراك، وكان يرتادها كباتن الطائرات وطواقمهم والسياح. ومضى الياس مفصلاً بأن المنطقة تحولت إلى تجارة عملة تقريباً منذ بداية الثمانينات، وذلك حينما صار هنالك سعر للدولار يختلف عن السوق الرسمي وأصبح الأخير الاقل اغراءً. الياس، أشار إلى أن امتداد المنطقة لأبو جنزير حالياً (مسالة حديثة)، لأن الممارسة قديماً كانت تنحصر فى فراندات فندق أراك. وقال: (من سخرية الاقدار أن هذه التجارة الممنوعة تمارس فى مكان قريب من القصر الجمهوري).
(4)
خبير أمني – فضل حجب إسمه – أكد لـ (الانتباهة أون لاين) عدم وجود احصائية لتجار العملة بوسط الخرطوم لأن الدولار أصبح سلعة تباع وتشترى، ولذلك قد تستوعب التجارة يومياً إعداد من التجار أو القادمين الجدد الذين منهم من لا يكون له علاقة مباشرة بتجارة وإنما قد يبيع مضطراً على سبيل المثال لأحد أقربائه المغتربين، وفقا لمعاملة معينة. ورغم عدم وجود تقديرات إلا أن الرؤوس الكبيرة حسب الخبير الأمني معروفة، وقال: (هنالك قرية كاملة يتاجر أهلها فى العملة).
وحول عجز السلطات فى القضاء على السوق الأسود بوسط الخرطوم، رغم الحملات والمضايقات الأمنية للتجار طيلة السنوات السابقة، رد المشكلة إلى عدم وجود تشريعات واضحة تحرم التعامل بالنقد الأجنبى، وقال: (لا توجد قوانين تحرم التعامل بالنقد الأجنبي فى كل العهود السابقة سواء فى فترة الرئيس الأسبق جعفر نميري أو في عهد الديمقراطية، أو حكومة الإنقاذ). وأوضح أن التعامل مع الموقوفين من التجار ومصادرة أموالهم لا يتم إلا بقانون الطوارئ، مؤكداً عدم وجود تشريع واضح، مشيراً إلى أن إجراءات جهاز المخابرات العامة فى التعامل مع الأمر ظلت استثنائية وفقاً لقانون الأمن الوطني باعتبار أن تجارة العملة أضعفت الاقتصاد السوداني، غير أن الجهاز يخسر عند التقاضي بالقانون في المحاكم لأن الإجراء يكون غير مؤسس على قوانين راسخة بل على قانون استثنائي عبارة عن تقدير من السلطات لتجارة الدولار بأنها مهدد للأمن القومي.
الخبير الأمني أشار كذلك إلى أن استمرار وجود التجارة له أيضا ارتباطات بريادة المنطقة فى هذا النوع من التجارة، من منطلق أنها عرفت كمحل للتجارة فى جميع الأنشطة، إلى جانب أن حركة النقد الأجنبي نفسها أضحت أكبر بكثير من سعر المصارف بعد أن كان الفارق ضئيلاً بين سعر البنك والسوق الأسود فى السابق، وهو الأمر الذي عزز ربما من قيمة رسوخها كمنطقة لبيع العملات.
(5)
رئيس اللجنة الاقتصادية بحماية المستهلك حسين القوني فسر أستمرار السوق الأسود بالسوق العربي حتى اليوم بسبب المواصلات المتاحة بالمكان، وأن اغلب الدوائر الحكومية حوله، كما أن القادمين للخرطوم من داخل وخارج السودان يصلون إلى وسط المدينة لسهولة الوصول منها إلى أية منطقة أو مكاتب حكومية أو حتى إلى الأسواق.
وأجمل القوني فى حديثه لـ(الانتباهة أون لاين) ايجابيات وجود السوق السوداء فى توفير النقد الأجنبي فى ظل شحه، والصعوبة التى يجدها المواطن للحصول عليه لأغراض السفر للعلاج أو التعليم وغيرها، وذلك على الرغم من عدم قانونية الممارسة. وأشار القونى إلى أن السلطات أحياناً تضطر لفتح الباب للمستوردين للاستيراد من مواردهم الخاصة، أي السوق السوداء، وأضاف: (كان ينبغي أن يكون العمل في هذا السوق بضوابط معلومة ومعروفة حتى لا يحدث ضرراً بالإقتصاد السوداني).