عندما يقال عن شخص أنه (يشرك ويحاحي)، فذلك يعني أنه يأتي بفعلين متناقضين متقاطعين لا يلتقيان في آن واحد، مما يدل على أنه يعاني اضطرابا وتشويشا في التفكير، كالذي ينصب شراكا لاصطياد الطير ولكنه في الوقت نفسه يحاحي الطير أي يطرده، وقد وقعت وزيرة التجارة المنصبة ك(سد طلب) بواسطة الانقلاب تحت طائلة هذا المثل، فقد أقرت الوزيرة في افادة صحفية لها، بوجود غلاء وصفته لصحيفة (الحراك) بـالفاحش، وعزت الوزيرة في توصيف صحيح لأسباب هذا الغلاء الى انفلات سعر الصرف، وزيادة أسعار الوقود التي أدت بدورها إلى ارتفاع رسوم ترحيل البضائع من الموانئ إلى الأسواق. ونفت وجود ندرة في السلع الأساسية بالأسواق، وقالت إن السلع متوافرة بكميات كبيرة، لكن عدم استقرار الدولار أثر سلباً على أسعارها وجعلها في رحلة زيادات مضطردة..
وكل هذا الذي ذكرته الوزيرة عن أسباب الغلاء الفاحش لا غبار عليه بل أصابت به كبد الحقيقة، ولكن فجأة وبدلا من أن تمضي الوزيرة في سياقها العلمي والمنطقي الذي حددت فيه أسباب الغلاء، بأن تحدد وصفة علمية منطقية للجم هذا الغلاء المتفاحش، كأن تشير مثلا لمعالجات يمكن بها السيطرة على انفلات الدولار، أو تقترح معادلة لخفض أسعار الوقود، باعتبارها الأسباب الرئيسية والمباشرة للغلاء، اذا بها تتحدث عن معالجة أمنية للغلاء، فتعلن عن تشكيل لجنة مستعجلة تضم جميع الأجهزة الأمنية لوضع حد لارتفاع الأسعار، ولا ندري كيف يمكن لهذه القوات الأمنية أن تضع حد لارتفاع الأسعار، دون استقرار أسعار الصرف، ودون خفض أسعار الوقود، اللهم الا ب(الزندية) والجبروت وتنهج هذه القوات نهج (تسعة طويلة)،
وأذكر بالمناسبة كلمة رصاصية لعلي عثمان محمد طه حين كان يشغل منصب النائب الأول للرئيس المخلوع، طه قال متوعدا التجار وآمرا قوى الأمن بعدم التسامح مع المتلاعبين بمعاش المواطنين وإن استدعى الأمر قطع تلك الأيادي المتلاعبة، وأضاف بالانجليزية shoot to kill أي اضرب لتقتل، والشاهد ان حتى هذه لن تفيد بل تعقد الأزمة أكثر، حيث سيضطر التجار إلى إغلاق محالهم والمكوث بالبيوت، وتتوقف تماما عمليات البيع والشراء وتصبح الأسواق قاعا صفصفا..
إن مثل هذه المعالجة الأمنية التي تزعمها الوزيرة، ليست جديدة ولا مفيدة، اذ سبقها عديدون لهذه التشكيلات الأمنية دون جدوى، آخرهم كان وزير التجارة والتموين علي جدو، الذي أطيح به ضمن من أطاحهم الانقلاب من وزراء، فقد كان جدو أصدر قرارا وزاريا بتشكيل لجنة عليا للإعداد لما أسماه الحملة القومية للرقابة على الأسواق وضبط الأسعار، للاضطلاع بالمهام الرقابية والتفتيشية المستمرة على الأسواق، بجانب التأكد من وضع الديباجات على أسعار السلع حسب السعر التأشيري الذي ستحدده الوزارة، وقبل جدو لا اذكر متى سمعنا أول مرة عن مثل هذه الحملات ولا اذكر ايضا كم عددها من أولاها والى حملة الوزيرة آمال المزمعة، ولكنني اذكر تماما إنها كانت منذ زمان طويل وكان عددها كثير بيد انها كانت كثرة مثل غثاء السيل، لم تضبط سوقا ولم تخفض سعرا، بل ظلت مجرد كلام والسلام، ولهذا اسميها نظرية الرقابة بالتنظير، على غرار نظرية الدفاع بالنظر لصاحبها السجين الان ووزير الدفاع الأسبق في النظام المخلوع عبدالرحيم محمد حسين..
لقد عايش الناس حتى الملل فيلم حملات مراقبة الأسواق وضبط الاسعار لعشرات المرات ولعشرات السنين، وكان الناس مع أي حملة يسمعون فقط ضجيجها دون ان يروا طحينها، والحكمة القديمة تقول من يكرر تجربة فاشلة حاقت به الندامة، وأي تجربة لا تورث حكمة تكرر نفسها، فما هي ياترى الحكمة التي الهمت الوزيرة آمال لاعادة عرض هذا الفيلم البايخ، وما هو الجديد الذي ستعود به حملتها المرتقبة دونا عن كل الحملات (الفشوش) السابقة، نخشى ان يتعالى صفير الناس احتجاجا على بياخة الفيلم، اذ انهم ظلوا يسمعون عن مثل هذه الترتيبات لمحاصرة ارتفاع أسعار السلع وضبط جودتها بطريقة راتبة ومتكررة، ومثلها أيضا الحملات الرقابية على الأسواق، دون أن تترك هذه الترتيبات والحملات أي أثر يذكر يلمسه المواطنون في الأسعار التي يكتوون بنارها يوميا، بل تظل تتصاعد وكأنما تمد لسانها ساخرة من هذه الترتيبات والحملات، والحقيقة الثابتة تقول إن الاقتصاد لا يتحسن والرخاء لا يعم بإصدار القوانين والفرمانات ولا بالإجراءات والتدابير الإدارية ولا بالحملات الرقابية والأمنية، وإنما قبل ذلك وأهم من ذلك بالإنتاج، فالإنتاج الوفير والاستثمارات المجزية هما أهم أداتان لمحاصرة انفراط الأسعار ومحاربة الغلاء، فكيف نترك الأهم، ونهتم بغيره، وهو هذه الترتيبات والحملات التي تنوي الوزارة اتخاذها وسائل لمحاصرة ارتفاع الأسعار، الراجح أنها لن تفعل شيئا سوى أن تكرر نفسها كما عشرات الحملات السابقات.