* ليس من الحصافة واللباقة والدراية السياسية ان يخرج وزير على أجهزة الاعلام ليتهم زميلاً له بالكذب، دعك من توجيه الاتهامات الى رأس الدولة ونقل رسالة سيئة جداً للداخل والخارج بوجود خلافات كبيرة في أجهزة السلطة وصلت لدرجة توجيه تهمة الكذب من وزير في الحكومة لأرفع مسؤول في الدولة، يمكن جدا ــ بل من المؤكد ــ ان تنعكس سلباً على علاقات السودان بالخارج وتهز ثقة المواطن في الدولة، وتقسم المجتمع بين مؤيد ومعارض لهذا الطرف او ذاك، خاصة تحت ظل الاوضاع المعقدة والازمات الحادة التي تعيشها البلاد، بالإضافة الى تأثيرها السلبي على العلاقة بين مكونات السلطة الانتقالية كمجموعات وافراد، وعلى تناغم الاداء الذي سيتحول الى نشاذ ومواجهات، إن لم يكن الى صراعات حادة تعصف بالفترة الانتقالية نفسها قبل انتهاء أجلها!
* لا يمكن القبول بتوجيه تهمة الكذب من وزير لرأس الدولة، علناً وامام اجهزة الاعلام وبلغة فيها الكثير من التحدي حتى لو كان احدهما كاذبا والآخر صادقا، وإلا توجب ان يرحل الكاذب ويبقى الصادق، ولكن لا يمكن أن يبقى الاثنان فيتأثر دولاب العمل ويصبح ميدانا للتحديات والصراعات وإثبات الذات، وينعكس ذلك على الاداء العام!
* حتى لو فرضنا ان رئيس المجلس السيادي كذب بالفعل في حديثه أمام أجهزة الاعلام عندما قال بأنه أخطر رئيس مجلس الوزراء بلقائه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي قبل يومين من حلول موعد اللقاء، وهو لم يفعل ذلك، فإن المعالجة لا يجب ان تكون بالطريقة الشاذة التي لجأ إليها وزير الاعلام والناطق الرسمي للحكومة ــ سواء بتوجيه منها أو التصرف بشكل فردى ــ بالخروج الى اجهزة الاعلام وتكذيب ما قاله رئيس المجلس السيادي، وكأن الطرفين أعداء أو خصمان في ميدان معركة، أو مسؤولان في دولتين مختلفتين وقع بينهما خلاف واختلاف وملاسنات، وإنما بطريقة تجنب الدولة الحرج والوقوع في اتون الصراع، وتحافظ على ثقة المواطن في النظام الحاكم وتحفظ لكل طرف احترامه، مع الاحتفاظ بحق مساءلة المخطئ بالطريقة التي ينص عليها الدستور والقانون، أما التراشق الإعلامي وتوجيه تهمة الكذب من وزير في الدولة الى رأس الدولة، فهو أمر غير مقبول وغير معهود في العمل السياسي في اية دولة في العالم حتى ولو كان نظامها السياسي نموذجا يحتذى به في الديمقراطية والشفافية.
* يستحيل ان يوجه وزير بريطاني أو أمريكي أو فرنسي تهمة الكذب الى رأس الدولة ويبقى في منصبه حتى لو كان رأس الدولة كاذبا بالفعل، ولا يعني هذا بأي حال من الأحوال عدم مساءلة ومحاسبة رأس الدولة على كذبته إذا ثبتت، بالطريقة التي ينص عليها دستور وقانون كل دولة، ولكن يجب ان يذهب الوزير أولا، إذ لا يستقيم عقلا أن يظل مسؤولا لدى رئيسه الذي وجه إليه اتهامات علنية بالكذب وأساء الى سمعته أمام كل الناس، ويظل يتعامل معه وكأن شيئا لم يكن، إلا إذا كنا في عالم آخر تقطنه الملائكة او الشياطين، أو أنه لا يُهمنا أمر المصلحة العليا للبلاد التي تتطلب وجود سلطة متناغمة، او على الاقل وجود ثقة واحترام متبادلين بين أطرافها المختلفة حتى لو كانت بينهما خلافات في وجهات النظر .. ولكن أن تصل هذه الخلافات الى مرحلة توجيه تهمة الكذب عياناً بياناً من وزير الى شخص يجلس على قمة الدولة فهو أمر غريب، لا يجب أن يمر بدون مساءلة وحساب .. وإلا أصبح رأس الدولة مثاراً للسخرية واطلاق الاتهامات، وضاعت هيبة الدولة!
* قد يكون مقبولاً من صحفي أو مواطن أن يتهم رأس الدولة أو أي مسؤول آخر بالكذب أو أية تهمة أخرى، وعليه تقع مسؤولية إثباتها أمام العدالة إذا اشتكى صاحب الحق القانوني، أما أن تصدر التهمة من وزير لرئيسه، فإما أن يرحل أحدهما، أو كلاهما .. أو علينا أن نقبل العيش في دولة لا نعرف فيها المسؤول الصادق من الكاذب، تختلط فيها الاكاذيب بالحقائق، وتتحول الى ساحة ملاكمة يتبادل فيها الخصمان اللكمات والشتائم واللعنات، بينما نحن نتفرج ونصفق ونزغرد، لا تُهمنا دولة ولا وطن!
الجريدة