صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

هل العلم محايد.. أم أن للعلماء أجندات اجتماعية وسياسية؟

46

هل العلم محايد.. أم أن للعلماء أجندات اجتماعية وسياسية؟

في عام 1990م بثّت الإذاعة الكندية سلسلة محاضرات علمية تحت اسم “البيولوجيا حين تكون أيديولوجيا” لعالِم الأحياء التطوّرية، وأستاذ “البيولوجيا” بجامعة “هارفارد”، الدكتور “ريتشارد لوينتون ، والذي سلك من خلال محاضراته مسلكا نقديا للدور الذي يلعبه العلم (وخاصة علمي الأحياء والطب) في تبرير التفاوت بين الطبقات الاجتماعية وبين الأعراق بدعوى أن هذا التفاوت طبيعي ولازم.

وفي خمس محاضرات يشرح “ريتشارد” كيف لعبت “البيولوجيا” هذا الدور التحيّزي “خصوصا بعد أن تم الكشف عن الشفرة الجينية التي تنقل بها الجينات الصفات عبر الأجيال”، وما تبع ذلك من “نظريات علمية بلغت من التطرف أحيانا أن فسّرت الحياة البشرية وفقا لهذا المبدأ وحده، أي إن الوراثة هي العامل الوحيد الذي يحكم الحياة ويوجهها، وإن طبيعة الإنسان محكومة بتركيب وراثي لا فكاك منه، ومن ثم فالإنسان -حسب هذه التفسيرات- مُسيّر بالكامل ولا خيار له.

فعلى خلاف ما قد نحسبه في تلك النظريات من موضوعية، يرى “ريتشارد لوينتون أن المؤسسة العلمية لا تستقل -كُليًّا- بذاتها عن المجتمع والسياسة، بل إنها قد تُستخدم كأداة لشرعنة وتمرير بعض الرؤى الطبقية، لتكون الفروق في السلطة والثروة بين المواطنين -أو الشعوب- نتاجا للقدرات الوراثية والجينات ولا شيء غير ذاك

وفي خمس محاضرات يشرح “ريتشارد” كيف لعبت “البيولوجيا” هذا الدور التحيّزي “خصوصا بعد أن تم الكشف عن الشفرة الجينية التي تنقل بها الجينات الصفات عبر الأجيال”، وما تبع ذلك من “نظريات علمية بلغت من التطرف أحيانا أن فسّرت الحياة البشرية وفقا لهذا المبدأ وحده، أي إن الوراثة هي العامل الوحيد الذي يحكم الحياة ويوجهها، وإن طبيعة الإنسان محكومة بتركيب وراثي لا فكاك منه، ومن ثم فالإنسان -حسب هذه التفسيرات- مُسيّر بالكامل ولا خيار له.

فعلى خلاف ما قد نحسبه في تلك النظريات من موضوعية، يرى “ريتشارد لوينتون أن المؤسسة العلمية لا تستقل -كُليًّا- بذاتها عن المجتمع والسياسة، بل إنها قد تُستخدم كأداة لشرعنة وتمرير بعض الرؤى الطبقية، لتكون الفروق في السلطة والثروة بين المواطنين -أو الشعوب- نتاجا للقدرات الوراثية والجينات ولا شيء غير ذاك

ففي بحث أعدّه “لوينتون” مع عالم الأحياء الإنجليزي “ستيفن روز”]، قال إن مشكلة حوادث الشغب في البلدان الفقيرة قد نُظِر إلى علاجها -من خلال هذا الفهم- نظرة بيولوجية بحتة تفترض أن القضاء عليها يستلزم عقاقير معينة أو تعديلا ما في الهندسة الوراثية، في حين أن الحل الحقيقي للمسألة لا يتطلب أكثر من تناول الأسباب الاجتماعية والسياسية للمسألة وإصلاحها، لا أن نقنع الناس أن الأزمة في جيناتهم وما ورثوه عن آبائهم.

وهو ما أكّده في موضع آخر حين تحدّث حول الأمراض السرطانية وطريقة تناولها في التوعية الطبية، إذ قال إننا لو تخلّينا -مثلا- عن استعمال مادة “الأسبستوس”[*] فإننا لن نكافح السرطان، لأن السوق الرأسمالية ستتضطرنا لاستعمال منتجات أخرى تحمل لنا الضرر ذاته، إذن فالمشكلة ليست طبيّة وإنما هي سياسية/اقتصادية في المقام الأول، لأن العلم، بوصفه نشاطا إنتاجيا، يتطلّب وقتا ومالا، وتحكمه -لأجل ذلك- ذات القوى التي تتحكم بالمال والوقت في العالم، لذا فهو خاضع أحيانا لاستغلال هذه المؤسسات.

وبين التفسير البيولوجي للإنسان يقف “ريتشارد” في محاضراته بين افتراضيتين: إحداهما تُرجع كل شيء إلى الجينات وتُخضع الإنسان لسيطرتها، والأخرى ترى أن الأمر أكبر من ذلك بكثير. فهل حقا تتحكم الجينات في كل شيء، أو أن للدكتور “ريتشارد” قولا آخر بخصوص ذاك؟

عوامل النفوذ.. من أين تأتي سلطة العلماء؟

بوظيفتي التسخير والتفسير، يُفصّل “لوينتون” أدوار العلم الذي يكتسب سلطته المعنوية من هذه القدرة المزدوجة على تيسير العالم للبشر وكذا تفسيره لهم، فكما كانت الكنيسة الأوروبية مصدرا للتفسيرات، فإن المؤسسات العلمية قد اقتنصت دورها بعد أن توافقت فيها الشروط التي سيطرت من خلالها الكنيسة على الأمور.

فكي تتمكن مؤسسة ما من أن تفسّر العالم لتشرعنه يجب أن يتوافر لها عدة مزايا، أولها أن تبدو مستوحاة من مصدر خارج عن الصراع الاجتماعي الإنساني المعهود، ويتحتمّ ألا تبدو صنيعة للقوى السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، بل أن تكون تنزّلت إلى المجتمع من مصدر متعالٍ على الإنسان. ثم هي بعد ذلك صحيحة على مستوى الأفكار والنتائج وذات مصداقية متعالية على خطأ الإنسان وتآمره، وكذلك فهي ذات طابع سرّي ولغة متخصصة يحتاج عندها العامّة من يشرحها لهم. فإذا ما توفّرت هذه المقومات لمؤسسة ما فإنها -حسب “لوينتون”- تحوز سلطة التفسير والإقناع بلا دبابات أو رصاصات، ومن هنا يستمد العلم نفوذه على التفسيرات

النظرية والأيدولوجيا

“مهما ادّعى العلم أنه متعالٍ على المجتمع (كما ادّعت الكنيسة من قبله) سيظل مؤسسة اجتماعيّة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، مؤسسةٌ تعكس وتكرّس القيم السائدة ووجهات النظر المُهيمنة في المجتمع في كل حقبة تاريخية].

بهذا الاستهلال يُبحر البروفيسور “ريتشارد” في نظريته حول العلاقة التبادلية بين العلم والمجتمع، كمؤثّر ومُتأثِّر متبادلين، مُستدلا على ذلك بالتفسيرات العلمية الناتجة عن تصورات فلسفية، أو المُبرِّرة لتصورات سياسية عن العالم، كنظرية البقاء للأقوى التصارعية في تفسير “دارون” لتطور الحياة.

فيُعلّق على ذلك بأن “داروِين” نفسه كان واعيا بمصدر أفكاره المتعلقة بصراع البقاء، إذ ادّعى أن فكرة التطوّر بالانتخاب الطبيعي طرأت له لما قرأ “مقالة في السكان” (Essay on Population) الشهيرة لتوماس مالتوس، وهو كاهن واقتصادي عاش في أواخر القرن الثامن عشر، والذي كان مؤيدا لرقابة أشدّ على الفقراء كي لا يتلاقحوا فيخلقوا اضطرابا اجتماعيا. وفي السياق ذاته، يرى “ريتشارد” أن سمة العلم الذي نشأ في العصور الوسطى وعصر النهضة كانت تتبنى رؤية ما تفترض أن الطبيعة بأسرها وحدة لا تتجزأ، فلم يكن ممكنا فهم الطبيعة بتفكيكها لأن القيام بذلك يعني تحطيم أسسها.

بيد أن “نظرة اجتماعيّة جديدة تماما نشأت عندما تغيّرت المنظومة الاجتماعيّة وتأسست الرأسمالية الصناعية، وصار الفرد أساسيا ومستقلا، كأنما هو ذرّة اجتماعيّة يمكن لها أن تتحرّك من مكان إلى آخر وأن تلعب دورا أو آخر، فصار يُنظر إلى المجتمع بصفته نتيجة لصفات الأفراد، وليس المسبب لها؛ أي إن الأفراد هم من يصنعون المجتمع، وكذلك تصنع الجينات الأفراد التي تتحكم بهم، فالحروب تقوم لأننا عدوانيون في جيناتنا، وهكذا.

الحتمية البيولوجية.. الجينات تحمل الذنب

“لتقوم الثورة ينبغي أن تكون الشعارات لافتة لجموع الناس، ولا يمكن أن يجتمع الناس تحت شعار يقول: (المساواة للبعض) ولذا كانت الشعارات الأيديولوجية بعيدة عن الواقع”].

يقول “ريتشارد”، كذلك، إننا إذا ما نظرنا إلى المجتمع الذي أنشأته الثورات الأوروبية في مطلع العصر الحديث فسنجد أن مقدارا كبيرا من التفاوت في الثروة والسلطة قد ظهر بين الأفراد، وكذلك بين الأمم والأعراق. فإذا ما استحضرنا الشعارات المنادية بالمساواة والإخاء التي تصدّرت الثورة الفرنسية -مثلا- فكيف لنا أن نفسّر هذا التناقض الحادث بين الشعارات والواقع الذي يحمل تفاوتا واسعا في مجتمع يدّعي أنه تأسّس على المساواة؟

وعليه: فإمّا أن يعترف الساسة والإقطاعيون الجُدد أن كل هذه الشعارات كانت لتوحيد الجموع خلف الثورة، وإما أن يخترعوا البديل الذي يضع حواجز بين الفقراء والأغنياء -أفرادا وشعوبا- ليُعاد تشكيل مفهوم المساواة. وبالفعل، “فحين أزال المجتمع الحواجز المختلقة بين الطبقات، شجّع على خلق حواجز بيولوجيّة لا نعرف بالضبط ما المبدأ البيولوجي الذي يحكمها، فبدلا من أن يتساوى الناس في النتائج (الثراء والمكانة) سنجعلهم يتساوون في الفرص الابتدائية للكفاح؛ ثم نقول بعدها إن مَن يُدركون المراكز الأولى يتفوقون بيولوجيا -بواقع الجينات- على مَن أتوا في ذيل الترتيب.

غير أن الأمر لا يقف عند هذا الحد فقط، فوفقا لتفسير المذهب الطبيعي فنحن لا نختلف فقط في قدراتنا الفطريّة وحسب، لكن هذه القدرات الفطريّة ذاتها تنتقل بيولوجيا من جيل لآخر. هذا يعني أن تلك القدرات في جيناتنا، وبذلك تحوّلت فكرة الوراثة الاجتماعيّة والاقتصاديّة إلى وراثة بيولوجيّة. ومن هنا تتشكل الحتمية البيولوجية التي تصيغ أيدولوجيا التفاوت الطبقي على قوائمها الثلاثة: “أن بيننا اختلافات جوهرية بسبب اختلافاتنا الفطريّة، وأن المجتمع بطبيعته هرمي، وأن من المستحيل بيولوجيًّا أن تكون العوائد الاجتماعيّة والمكانة الاجتماعيّة متساويتين للجميع”.

وتأتي رواية “أوليفر تويست” لتشارلز دوكينز كأبرز مثال على ذلك، حيث نرى الفتى اليتيم “جاك دوكنز” في مقابلة نظيره “أوليفر” الذي كان هو الآخر يتيما. وبينما كان الأول فتى محتالا لعوبا، كان الثاني -ورغم نشأته اليتيمة- دمث الخُلق وذا روح طيبة قوية. حتى إذا علمنا أن “جاك” كان من أسرة متواضعة في حين أن “أوليفر” كان منتميا إلى شريحة اجتماعية مرموقة فهمنا صلة الجينات بالتفسير الذي تضمنه الرواية.

فهذا التباين بين الفتيين “هو أحد أشكال الأيدولوجيا العامة للحتمية الوراثية كما تطورت في الأعوام المئة والخمسين الأخيرة لتصبح نظرية شاملة لا تكتفي بأن صفات الفرد الأخلاقية والعقلية موروثة”، بل تذهب إلى أن هذا الوجود يفسّره نظام كلي يرى “أن الظواهر البشرية الاجتماعية نتائج مباشرة لخصائص فطرية، فالحتمية البيولوجية تفسير تبسيطي للحياة تنفذ فيه سهام السببية من الجينات إلى أفراد البشر، ومن أفراد البشر إلى البشرية كلها”.

كذلك، “فلم تكن الاختلافات الفطريّة محصورة في التفاوت بين الأفراد، بل قيل إن الأمم والأعراق تختلف فطريا في طباعها وقدراتها العقلية. “تلك الادّعاءات، التي لم تأتِ من عنصريين دوغمائيين لا يعرفون شيئا عن العلم، قد جاءت من قادة المؤسسات الأكاديمية والنفسية والاجتماعيّة الأميركية”. ففي عام 1923م نشر “كارل برغام” دراسة عن الذكاء بإشراف بروفيسور علم النفس في “هارفارد” ورئيس الجمعية الأميركية لعلم النفس “ر.م. يركز” (R.M. Yerkes) كانت نتيجتها أن “الاختلاط العرقي هنا في أميركا أسوأ من أي اختلاط لأي دولة أوروبية، لأن الزنوج جزء من تشكيلتنا العرقيّة، لذا سيكون تدهور الذكاء الأميركي أسرع، وذلك يعود إلى وجود الزنوج”

يخلص “ريتشارد” إلى أن ثمة تحيزات أيدولوجية تتحكم في توجيه علم الأحياء الحديث، وأنها ترانا مجموعة من الروبوتات الخرقاء التي شكّلتها الجينات جسدا وعقلا (مواقع التواصل)

وهو ما يتوافق مع قول “آرثر جنسن” إن “الفارق بين أداء السود والبيض في اختبارات الذكاء هو في معظمه وراثي، وما يؤيّده من تصريح رئيس متحف التاريخ الطبيعي الأميركي “هنري فيرفيلد” أن الأعراق الشمالية حين احتلت دول الجنوب لم يكن قدومها قدوم غزاة فحسب، بل قدوم مَن ساهم بشدّة بعناصر أخلاقيّة وفكريّة لثقافة كانت أقرب إلى الانحطاط].

البيولوجيا الاجتماعية وخدعة الفطرة المشتركة :

من الحتمية البيولوجية إلى الحتمية المجتمعية، ظهر الادعاء القائل إن البنية السياسيّة للمجتمع -التنافسي- مُحدّدة كذلك بأحماضنا النووية وجيناتنا، لذا، ولهذا السبب، فإن المجتمع لا يتبدّل. ولكي تكتمل منهجية الحتميّة البيولوجيّة فلا بد أن توجد نظريّة لفطرة الإنسان مكتوبة في جيناتنا -كقاعدة لهذه الرؤية- ولا تتغير بدورها.

أي إن كل فلسفة سياسيّة تطلب شرعيتها من فطرة الإنسان، لأننا لو عجزنا عن تمييز ما هو إنساني عما سواه فلن نستطيع بالتأكيد أن ندافع عن أسلوب معين للتنظيم الاجتماعي. من هنا تظهر ادّعاءات “البيولوجيا الاجتماعيّة” بأننا جميعا نشترك في فطرة واحدة تحملها جيناتنا، وأن نظرية الصراع الداروينية والانتخاب الطبيعي قد أدّت إلى صفات جينيّة مميزة للفرد من بني البشر، وأن تلك الصفات هي المسؤولة عن شكل المجتمع.

وهي هنا -نظرية البيولوجيا الاجتماعية- تُظهر الالتزام الأيديولوجي/الفكري الواضح تجاه النظام التنافسي الحديث وتجاه المجتمع الهرمي، وأولوية الفرد على حساب الكل، فلو خاضت المجتمعات البشريّة حربا ما فإن هذا سيعود إلى عدوانية أفراده، وليس لأن المصلحة السياسية ورؤية الطبقات الحاكمة ترى في الحرب مصلحة ما. “أي إن بنية المجتمع تعكس أصلا ميول أفراده ونزعاتهم، فحتى الثقافة يُنظر إليها باعتبارها مجرّد مجموع قطع مفككة من عادات الأفراد وتقاليدهم.

ويعلق “لوينتون” بأن تفسيرا كهذا للسلوكيات البشرية يُعدّ خلطا كبيرا بين فطرة الإنسان وظواهر أخرى، لأنه من الواضح أن بريطانيا وألمانيا لم تعلنا الحرب ضد بعضهما لأن الأفراد البريطانيين والألمانيين شعروا بالعدوانية تجاه بعضهما. فالخلط بين العدوان الفردي والعدوان القومي هو خلط بين اندفاع هرمونات تسري في جسد شخص صُفع وجهه، وبين أجندة سياسيّة تسعى للحكم.

وعن الادّعاءات التي تُبرهن هذه النظرة، والقائلة بوجود جينات سائدة في شعوب ما أو طبقات معينة تبرّر مكانتهم الاجتماعية المتحققة، يقول “ريتشارد” إن أصحاب هذا الادّعاء يمتلكون حجة بهلوانية وإلا لأمكننا افتراض جين “لوثرية” عند الفنلنديين بما أن 99٪ منهم لوثريون.

بينما صرّح بخصوص التشابه المزعوم بين الحيوانات والبشر أننا “في الحقيقة لا نملك مثقال ذرة من دليل على أن الأساس التشريحي والفسيولوجي والجيني لما نسميه عدوانية عند الفئران يناظر بأي شكل من الأشكال الغزو الألماني/النازي لبولندا عام 1938م. وكذا فالادّعاء أننا نرث صفاتنا من السابقين يفتقد الدليل العلمي الذي يفصل بين ما هو موروث جينيا وما هو مشترك بسبب التجربة العائلية. فالأحياء الاجتماعية في النهاية -وحسب “ريتشارد”- كانت آخر المحاولات العلمية وأكثرها إرباكا، لإقناع العامّة أن الحياة البشريّة (بشكلها الحالي) هي إلى حد كبير كما عليها أن تكون، بل ربما ما ينبغي أن تكون.

بين البيئة والجينات.. هل حقا البقاء للأقوى؟

يخلص “ريتشارد” في النهاية، وكما أوضح سابقا، إلى أن ثمة تحيزات أيدولوجية تتحكم في توجيه علم الأحياء الحديث، وأن هذه التحيزات ترانا -كما قال “ريتشارد دوكينز”- مجموعة من الروبوتات الخرقاء التي شكّلتها الجينات جسدا وعقلا. هذا التحيز يراه “لوينتون” نتيجة للالتزام الأيدولوجي تجاه حركة “الاختزالية” التي تفتت العالم إلى أجزاء وأفراد تتجمع في النهاية لتُشكّل مجتمعها. “هذه النظرة الفردية للعالم -من منظور بيولوجي- هي أصلا انعكاس لأيديولوجيا ظهرت نتيجة الثورات البروجوازية في القرن الثامن عشر، حيث وضعت الفرد مركزا لكل شيء.

ومن هنا يكمل “لوينتون” أن هذه النظرة لا تؤدي فقط إلى التصديق بأن القوى الداخلية -التي لا نتحكم بها- هي ما تشكل ما نحن عليه كأفراد، بل تجعل، كذلك، العالم الخارجي (بقطعه الصغيرة التي تُشكّله وقوانينه) مكانا نعيش فيه كأفراد دون أن يكون لنا تأثير عليه. فمقابل الفريق الذي يرى قدرتنا على حل المشكلات وذكاءنا أمرا تحدده الجينات، يظهر فريق آخر يرى أن هذه الأشياء ترتبط بالبيئة التي عشنا بها. فحسب قانون البقاء الدارويني فإن الكائنات أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن تتكيف وإما أن تموت، فالكائنات ساحة تعارك بليدة تتحكم بها الجينات، وهو ما رفضه “لوينتون”، قائلا إننا في حاجة إلى تحرير أنفسنا من هذا التحيز الفكري، وأن ننظر إلى العلاقات الفعلية بين الكائنات والعالم، حتى يظهر لنا عجز هذه الحتميات المفروضة عن تفسيرها.

فكما لا يوجد كائن حي دون بيئته، فإنه لا توجد بيئة دون كائنها الحي، بمعنى أن البيئة لا تنفرد فقط بالتأثير على الكائن الحي، بل إنه هو الآخر يحدد شكلها وتطورها، وكما أن الجينات تتأثر بها، فإنها تحرك الكائن كذلك للتأثير فيها وتشكيلها حسب ما يحافظ على بني جنسه. ومن ثم رأى “لوينتون” أن الكائن يستطيع تكييف بيئته حسب ما يناسبه، وأن العلاقة بينهما أكبر من خضوعه لها، ذلك لأن “الكائنات تحدد الشكل المادي للبيئة التي تعنيها”].

ثم يعود “ريتشارد” في النهاية إلى الخدعة القائلة إن ثمة فطرة بشرية تتحكم فيها الجينات لتُخضع البشر إليها، ومن ثم تُبرِّر -ضمنيا- الطبقية الممارسة ضدهم، فيقول إن المجتمع كمجموع يمكنه أن يتجاوز (حتى) القيود البيولوجية المفروضة على الأفراد معزولين.

فالإنسان العاجز عن الطيران قد ابتكر له المجتمع (مهندسون وعلماء وصنّاع) وسيلة للطيران تتغلب على هذا العائق البيولوجي، لذا، وكما رأى “ريتشارد”، فالقيود البيولوجيّة الموجودة على الأفراد حين نعزلهم وحدهم لا تصبح قيودا حين يكون هؤلاء الأفراد داخل سياق اجتماعي. أي إن صفات الأفراد لا يمكن فهمها دون سياق المجموع. “لذا، فالنظريّة التي تبحث عن فطرة بشريّة كنتيجة لجينات الأفراد، أو عن قيود بيولوجية على الأفراد موضوعة إما في جيناتهم أو في بيئة خارجية جامدة، فشلت في فهم كل هذا.

وفي النهاية يختتم أطروحته قائلا إن: “كل تلك الحدود المزعومة حول تأثير الجينات قد كذّبها التاريخ، فكما فعل منزل النبلاء الذي دمّر سلطته ليحد من النمو السياسي البريطاني، كذلك فعلت الجينات حين جعلت نمو الوعي فينا ممكنا، لأنها حين فعلت ذلك سلّمت قواها ليحل محلها نوع جديد مختلف تماما، ذلك هو التفاعل الاجتماعي بمختلف قوانينه وآلياته، والذي لا يمكن فهمه والإحاطة به إلا عبر تلك التجربة الفريدة: عبر الفعل الاجتماعي”.

فحسب البرفيسور البيولوجي “ريتشارد لوينتون” فإن الجينات -وحدها- لم تكن قادرة على فهم كل شيء، ومن ثم تفسيره، ذلك لأن الحياة البشرية أعقد من ضبطها عن طريق الهندسة الوراثية، و”أن النمو البشري والفعل البشري يتميزان بأنهما نتاج ترتيب هائل من أسباب متفاعلة ومتشابكة، وأن أفعالنا ليست عشوائية… فنحن كائنات مادية في عالم سببي، ولكن أفعالنا تكون حرة ومستقلة عن كل هذه الحتميات.

فلو كانت الحتمية البيولوجية ترى “أننا مقيّدون بقوة مجموعة من (الأسباب الداخلية/الجينات)” فإنها مخطئة بالطبع، لأن “البشرية ليست قطارا على قضبانه، وإنما نحن أحرار… ذلك لأن عقولنا وألسنتنا وأيدينا قد جعلتنا مستقلين عن كثير من الملامح الخاصة بالعالم الخارجي، فنحن مخلوقات تقوم بإعادة خلق بيئاتها النفسية والمادية… وهكذا فإن بيولوجيتنا هي التي تجعلنا أحرارا.

 

الجزيرة الوثائقية

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد