صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

»ندرس« هي الحل

9

زاوية غائمة
جعفر عباس
»ندرس« هي الحل


كنت في لندن قبل ثلاثة أسابيع، وجدت نفسي خلالها مستمتعا بمتابعة الصحف البريطانية،: لا حوثي، لا شبيحة، ولا مالكي، ولا بغدادي، وإذا تعرضت تلك الصحف لقضايانا المزمنة، ففقط فيما يتعلق بالبريطانيين الذين ينضمون إلى تنظيم الدولة الإسلامية
ولو كنت أعمل في صحيفة غير عربية، لنهجت نفس نهج الصحافة البريطانية: ما عنصر الخبر في مقتل كذا وعشرين سوريًّا في موقع ما؟ ألم يكن هذا ما يحدث طوال السنوات السبع الماضية؟ وعلام التساؤل مع الشاعر السوداني محمد الفيتوري: لماذا مشى قاتلا ثم عاد قتيلا؟ ما الجديد في موت كذا شخص في ريف حلب أو درعا بالبراميل المتفجرة؟ الخبر هو أن يتوقف بشار عن ممارسة الإبادة الجماعية لشعبه، ولو فعل ذلك فسيحمل الناس على التشكك في أنه من صلب حافظ الضبع!
أُمُّ القضايا في أجهزة الإعلام الغربية، هي آليات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتأثير ذلك على اقتصادات بريطانيا ودول أوروبا الأخرى، وتذكرت عندها ورطة اليونان المالية، ورغم أن فهمي للأمور الاقتصادية »قاصر« إلى حد كبير، إلا أنني استنتجت من الطريقة التي فرضت بها دول الاتحاد الاوروبي شروطا مذلة، لإقالة عثرة اليونان، إن الرأسمالية غير المقيدة بأي شرط، غول لا يرحم عدوا أو حبيبا، فاليونان جزء من الاتحاد الأوروبي والعملة الأوروبية الموحدة، وهو المشروع الذي يهدف إلى توحيد الدول الأوروبية في إطار دولة واحدة، وربما قال البريطانيون الذين أيدوا خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي: شوفوا ماذا سووا في اليونان المسكينة ساعة الزنقة!! هؤلاء عواقب معاشرتهم غير مضمونة.
ساعة الزنقة اليونانية؛ عندما انهار اقتصادها وغرقت في الديون نسيت دول أوروبا الكبرى )ألمانيا وفرنسا( حكاية الظفر الذي لا يطلع من اللحم، واشترطت أن تساعد اليونان مقابل قبولها الخضوع لـ»الوصاية«، ولو كان يطاع لي أمر، لنصحت الحكومة اليونانية بقطع المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، وإعلان الامتناع عن سداد الديون، بل المضي إلى أبعد من ذلك بتشكيل »نادي الدول الرافضة للسداد«، وتُعرف اختصارا بـ»ندرس«، وقد رفضت الأرجنتين سداد ديونها الأجنبية في عامي 2002 و2014، وطلبت من الدائنين أن يركبوا أعلى ما في خيولهم، متعللة بأن فوائد و»خدمة« تلك الديون أعلى من أصول الديون بأضعاف مضاعفة، وإزاء وقفة »الرجال« تلك )كانت في واقع الأمر وقفة »نساء« لأن من اتخذ قرار الامتناع عن سداد الديون كانت امرأة: الرئيسة كرستينا كريشنر(، ما كان من الدائنين إلا أن تخلوا عن صلفهم، وصاروا يتوسلون إلى الأرجنتين: معليش.. نعفيكم من نسبة قدرها كذا في المائة.. يفتح الله.. طيب ادفعوا أصل الدين على عشر سنوات.. لن ندفع.. خلاص على 30 سنة وسنعطيكم قروضا غير شايلوكية لتسيير اقتصادكم.
أذكر أن حكومة المارشال نميري في السودان، رفضت في ثمانينيات القرن الماضي تمويلا من البنك الدولي بـ100 مليون دولار، لإعادة تأهيل السكك الحديدية، ولما استغرب الناس الرفض، شرح وزير المال أن 64 مليونا من ذلك المبلغ كانت ستعود إلى خزينة البنك الدولي »نظير خدمات استشارية«، وفي سودان اليوم يعيش الشعب السوداني في ضائقة غير مسبوقة لأن حكومتنا سلمت رقبتها منذ تسعينيات القرن الماضي لصندوق النقد الدولي بالخضوع التام لشروطه القاسية والتي لا يعاني من قسوتها الا الشعوب، ومع هذا أغلق صندوق النقد الحنفية التي تخص السودان ولم يقدم له فلسا واحدا بل يحرص على التشهير به في تقاريره ليضمن ان البنوك التجارية الغربية لن تتعامل معه.
بكل جدية: ماذا سيحدث لو شكلت الدول الغارقة في الديون ناديا، ورفضت مجتمعة سداد الديون؟ سيقول قائل إن تلك الدول ستحرم نفسها من تمويل مشاريع أساسية مستقبلية. ولكن هذا »كلام فاضي«، فمعظم الدول المدينة ظلت تعاني من البلل، وكما يقول المثل السوداني فإن على من ابتل أن »يعوم«، أي يمضي إلى آخر الشوط، وما سيحدث هو أن الدول الدائنة هي التي ستركع أمام المديونين وتتوسل، ليس فقط لاسترداد ولو جزءا من أموالها، ولكن لأن المرابي يجد متعة في الإقراض، ولا يفقد الأمل في أن يتمكن في مرحلة ما، من لَيْ أذرع المدينين
والشاهد، هو أن الدول الأوروبية ليس عندها -بالمصري- »يمّه ارحميني«، فقد فرضت الوصاية على اليونان وطالبت الحكومة اليونانية بخفض الرواتب وزيادة الضرائب وأسعار السلع الضرورية، وكانت تلك سانحة لو أحسن اليونان استغلالها، لاستعاد أمجاد قدماء الإغريق الذين علموا البشرية الفلسفة. أعني أن يعلموا الشعوب المقهورة التمرد على صندوق النقد وبنوك الغرب، لتضرب الأخيرة رأسها بالجدار أو تشرب من أعالي البحار.

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد