> شهد شهر سبتمبر من عام 1966م ميلاد أشهر رواية سودانية على مر التاريخ، لفت كاتبها الأنظار، وتوجت ضمن أفضل مائة عمل أدبي في العالم، لتتلقفها دور النشر وتعيد طباعتها وترجمتها إلى عدة لغات.
> هي بلا شك (موسم الهجرة إلى الشمال) لصاحبها الطيب محمد صالح الذي ولد في كرمكول شمال السودان وتربى في بورتسودان ودرس بوادي سيدنا الثانوية، ثم كلية الخرطوم الجامعية.
> الطيب ــ لمن لا يعرفون إلا القليل عنه ــ عمل معلماً في مدرسة لطفي الأهلية الوسطى برفاعة، وكان شيخ لطفي ناظر المدرسة يسميه (طيب القوم)، والأحياء من تلاميذه يذكرونه بالخير، وقالوا إنه كان من ألطف المعلمين الذين درسوهم.
> في عام 1953م ذهب الطيب للدراسة بمعهد بخت الرضا، وهناك سمع بأن هيئة الإذاعة البريطانية تبحث عن مذيعين فتقدم بطلب، وتم اختياره وسافر إلى لندن في نفس العام ليعمل هناك لسنوات عدة. وفيها التحق بإحدى الجامعات وحصل على دبلوم العلاقات الدولية.
> أول قصة نشرها الطيب صالح في مجلة (هنا لندن) كانت في عام 1960م، وهي (نخلة على الجدول) وتحكي عن مزارع أراد بيع نخلته لاحتياجه الشديد، وجاءه أحد الجشعين وتحدث معه بتكبر من أعلى الدابة التي يركب عليها، وحدث شد وجذب مع البائع ومع نفسه، لينتصر المزارع في نهاية القصة بعد أن أتاه المدد من غائب بعيد.
> في النصف الأول من الستينيات تم إحضار الطيب للسودان منتدباً، وقرأ سيرة ابن هشام، وعمل مقابلتين إحداهما مع الشاعر ود الرضي، وأخرى مع إبراهيم العبادي، مازالت ذكراهما عالقة في أذهان ذاك الجيل، ونرجو أن تكون هذه الكنوز موجودة في مكتبة الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون.
> تناول الناقد المصري رجاء النقاش كتابات الطيب صالح بعد أن أهداه سيد أحمد الحاردلو الدبلوماسي المعروف عدداً من الإصدارات، فالتفت العالم لكاتب يخطو بثبات نحو المجد.
> لم يتوقف الطيب صالح عند الروايات فقط، بل كان يكتب مقالات في عدد من المجلات، ومن أشهر هذه المقالات مقال تم نشره في مجلة (الدوحة) وجاء تحت عنوان: (المحجوب الشاعر) تحدث فيها عن ليالي المحجوب عندما كان منزله منتدى لتلاقي عدد من الأدباء والمفكرين والتشكيليين. ووصف المحجوب بأنه لم يكن متكبراً ولم يكن متواضعاً وهذا هو سر عظمته.
> أعود لموضوع المقال الذي يأتي إحياءً لذكرى مرور ثلاثة وخمسين عاماً على صدور الرواية المثيرة للجدل, والتي قال عنها كاتبها إنها جلبت له المتاعب، كما جلبت له الكثير من الشهرة، بينما لم يحقق مكاسب مالية من طبعاتها الكثيرة، لأنه يكتب رغبة في الكتابة لا من أجل المال.
> تمت ترجمة الرواية إلى لغات عديدة، وحققت انتشاراً غير مسبوق في الدول الغربية، ولكن في روسيا كان الأمر مختلفاً جداً، حينما قام فلاديمير شاغال أحد أشهر المستعربين الروس بترجمة وطباعة (موسم الهجرة إلى الشمال).
> في الطبعة الأولى، أخرج شاغال مائة ألف نسخة للأسواق نفدت جميعها، فقام بطباعة مائة ألف نسخة نفدت أيضاً، ليطبعها مرة ثالثة بسبعمائة ألف نسخة. وهو رقم ضخم في مجمله اقترب من المليون نسخة.
> يقول شاغال: (لقد لعبت موسم الهجرة إلى الشمال دوراً كبيراً في تغيير مفاهيم سكان تلك البقاع عن العرب والمسلمين ككل، وفتحت الباب واسعاً أمام كتب وترجمات أخرى وجدت حظها من النشر والانتشار).
> في عدد قديم من مجلة (الدوحة)، يعود لثمانينيات القرن الماضي، قال الأديب جبرا إبراهيم جبرا في حوار ثر: (في غرفة صغيرة تطل على نهر التايمز حبسنا الطيب صالح ليكمل روايته موسم الهجرة إلى الشمال).
> بدأ الطيب فصول الرواية، من بلدة صغيرة عند منحنى النيل، وأكملها على ضفاف (نهر التايمز).
> رحلة طويلة قطعها مصطفى سعيد نهل فيها من نهر النيل، وصار يبحث عمن يروي ظمأه في ديار بعيدة دون جدوى، ليعود إلى ضفاف القرية من جديد, وتغوص جثته في أعماق النيل دون أن تطفو أو يوجد لها أثر.
> مثل هذه الذكرى مرت على أهل الثقافة والأدب في بلادنا، دون أن ينتبه لها أحد، لأننا لا نحتفي بمبدعينا ولا بأعمالهم، ولا نتذكرهم برغم ما يجدونه من اهتمام في الأوساط والمجتمعات الأخرى.