يرفض المواطن السوداني عبد الله الأمير البالغ من العمر 45 عاما، وأحد المعدنين التقليديين العاملين في البلد الشمال أفريقي؛ تسجيل كل الكمية التي أنتجها من الذهب بسجلات الحكومة السودانية الموجودة بمطاحن صخور الذهب، وهي الكمية التي تُساوي كيلوجرام واحد فقط أنتجها خلال خمسة أشهر بمنطقة العبيدية بولاية نهر النيل شمال الخرطوم، واحدة من أهم مناطق التنقيب عن المعدن النفيس، مضيفا لـ “ميدان” أثناء محاورته: “أنا لم أترك أطفالي وأسرتي في غرب السودان لتأخذ الحكومة مجهودي لشهور وأنا أحفر الآبار وأتعرّض لخطر تهدّمها ودفني حيًّا تحت أنقاضها، وخطر استخدام الزئبق في التنقيب عن الذهب، ماذا قدّمت لي الحكومة في المقابل لأكون ملتزما بقراراتها؟”.
يُعَدُّ الأمير واحدا من ثلاثة ملايين سوداني يعملون في مجال التعدين الأهلي، إحدى أهم مساحات العمل السودانية، منهم مليون مواطن يعملون في التنقيب عن الذهب، ومليونا شخص يعملون في المهن المصاحبة للتعدين مثل تكسير حجارة الذهب يدويًّا، وجلب المياه وإعداد الطعام وغسل الملابس وغيرها وفقا لأحدث وآخر تقارير وزارة المعادن الصادر في عام 2017، وقد التقينا بالأمير بسوق الذهب وسط العاصمة الخرطوم وهو يعقد صفقة لبيع إنتاجه من المعدن الأصفر بعيدا عن أعين السلطات الأمنية المنتشرة بكثافة بالسوق الرئيسة.
يقول الأمير إنه إذا ما اضطر لتسجيل كمية الذهب التي أنتجها فإنه يُسجّل ما بين 2% إلى 10% فقط من الكمية ويُخفي باقي إنتاجه، مُحمِّلا البنك المركزيّ السودانيّ مسؤولية الفاقد التعديني (الفرق بين المنتج من الذهب وبين المُصدَّر إلى خارج السودان) بإصداره لقرارات يُلزم بها المعدنين التقليديين ببيع كل إنتاجهم من الذهب له بأسعار غير مجزية وأقل من سعر السوق، حيث يشتري البنك كيلو الذهب بـ 2,152 مليار جنيه سوداني، أي ما يُعادل 48 ألف دولار تقريبا، وهو السعر الذي حدّدته آلية تحديد تابعة للبنك المركزي بداية ماي المنصرم صعودا وهبوطا، وكان السعر قبلا هو 40 ألف دولار للكيلو الواحد.
وبينما يحصل البنك المركزي السوداني في نظر “الأمير” على الذهب من المعدنين بأسعار غير عادلة، فإنه يمنح شركات حكومية امتيازات وتسهيلات في صادرتها من الذهب، حتى إن حصيلة صادرات الذهب لا تدخل خزينة الدولة، بل تُودع في حسابات بنكية خارج البلاد. بينما يعرض تجار الذهب مبلغا يزيد على سعر البنك بنحو ألفي دولار للكيلو الواحد ويزيد وفقا للعيار، مضيفا: “مؤخرا اكتشفنا أننا نبيع بطريق غير مباشر لشركات التعدين الكبيرة عبر وسطاء”، وهو أمر يؤكّده لـ “ميدان” وزير التجارة والصناعة السوداني السابق موسى كرامة، موضحا أن أغلب شركات التعدين لا تُنقّب عن الذهب وإنما تعتمد على شرائه من المعدنين التقليديين.
ويعادل إنتاج المُعدّنين التقليديين، وهم أفراد أو شركات صغيرة، ما نسبته 85% من إجمالي إنتاج الذهب السوداني وفقا لعضو المجلس الاستشاري لوزارة المعادن محمد الناير. ويتفق الناير مع الرأي القائل إن بنك السودان المركزي ظل لسنوات لا يمنح السعر المناسب للذهب بجانب احتكاره لفترات طويلة لعمليات شرائه وتصديره مما ساهم في تزايد معدل تهريب وتخزين المعدن النفيس، مضيفا أنه تحت ضغط قرارات البنك المُلزمة له كسلاح ذي حدين بشراء الذهب؛ اضطر المركزي لضخ كميات كبيرة من السيولة النقدية كانت السبب الرئيس في ارتفاع معدلات التضخم التي وصلت في ديسمبر أواخر العام الماضي 2018 لأكثر من 63%، مع نقص السيولة النقدية الحادة التي يُعاني منها الاقتصاد السوداني.
ويتفق مع ذلك المحلل الاقتصادي أبو القاسم إبراهيم قائلا لـ “ميدان”: “احتكار بنك السودان لشراء وتصدير الذهب وتوفير العملة الصعبة لذلك هو العامل الأساسي لانهيار العملة السودانية، وبدلا من أن يكون الذهب نعمة تحوّل إلى نقمة”.
بوابة هروب الخرطوم
وارتفع إنتاج السودان من الذهب بـمناطق إنتاج شملت 12 ولاية خلال أعوام (2015-2016-2017) بنسبة 20% من 73,4 طنا إلى 93,4 طنا، وكشف تقرير أداء وزارة المعادن للنصف الأول من العام الماضي 2018 أن إنتاج الذهب خلال النصف الأول من العام بلغ 63 طنا اشترى بنك السودان منها ثمانية أطنان، وبلغ صادر الشركات 1,4 طن، لتصبح جملة صادرات الذهب 10,7 أطنان بقيمة 422.5 مليون دولار، وكشف التقرير نصف السنوي ذاته أن ما فُقِد بين الذهب المُنتَج والمُصدَّر والمُصنَّع والمُخزَّن بلغ 48,8 طنا بنسبة وصلت إلى 77% لفاقد الذهب بين منطقة الإنتاج وبنك السودان كمشترٍ، في وقت يُمثِّل فيه صادر الذهب نسبة 37% من إجمالي صادرات السودان بالكامل خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة حسب تقرير وزارة المعادن المذكور أعلاه.
إلا أن لـموسى كرامة -وزير الصناعة والتجارة السابق- مقارنة عقدها بين كمية إنتاج الذهب المُعلَنة من قِبل الحكومة في عام 2015، وهي 70 طنا، وبين المعلومات التي تحصّل عليها والتي أكّدت أن صادر الذهب عبر مطار الخرطوم فقط إلى مطار دبي عبر الخطوط الإماراتية في العام نفسه بلغ 102 طن، فيما قدَّر خبراء الأمم المتحدة حول السودان -في تقرير صدر في شتنبر للعام التالي 2016- الذهب المُهرَّب من السودان إلى الإمارات في الفترة ما بين 2010-2014 بما قيمته 4,6 مليارات دولار.
ويتفق كلٌّ من كرامة وعبد المنعم الصديق رئيس غرفة مُصدِّري الذهب مع تقرير خبراء الأمم المتحدة بأن أكبر مُشترٍ فعلي للذهب السوداني هي الإمارات. ويكشف كرامة لـ”ميدان” عن تقديرات الصاغة والمعدنيين للإنتاج الفعلي من الذهب، حيث ارتفع إلى كميات تتراوح بين 230-240 طنا خلال عامي 2017-2018، في وقت كانت فيه الحكومة تتحدث عن إنتاج يتراوح بين 90-110 طن فقط، بمعنى أن الفاقد يتراوح بين 100-130 طنا سنويا، ويشير “كرامة” إلى أن تهريب الذهب يتم عبر كل المنافذ، خاصةً مطار الخرطوم، والذي اعتبره أكبر منفذ تهريب، إلا أن التهريب لمصر عبر الطريق البري أصبح يُشكِّل هاجسا أكبر.
ولمعرفة كيفية تهريب الذهب عبر مطار الخرطوم الدولي قابلنا تسعة أفراد من العاملين في أمن النقل الجوي وعمال الشحن والتفريغ وموظفين بالشركات العاملة بالمطار والجمارك، طلبوا جميعا عدم ذكر أسمائهم خوفا من ملاحقة الجهات الأمنية لهم ومن فقدان وظائفهم، وقد تطابقت رواية موظفي الجمارك ورواية أمن النقل الجوي حول وجود شحنات من مخلفات التعدين دخلت المطار معبأة في براميل بلاستيكية على أساس أنها عيّنات رمال في طريقها للتحليل بألمانيا عبر الخطوط الإماراتية، وقد سبق أن غادرت شحنتان من تلك المُخلفات وصلت كميتها إلى 4 أطنان، وفي المرة الثالثة والأخيرة في غشت من العام الماضي كانت المناوبة الليلية قد منعت مغادرة شحنة رمال معتادة عبارة عن طنّين بقيادة ضابط جمارك برُتبة نقيب، حيث ساورت الشكوك ذلك النقيب وطالب بفحصها بالمعمل المركزي للهيئة العامة للجمارك. وعلى الرغم من أن المستندات الرسمية للشحنة أفادت بأنها عينات رمال تخص شركة تعدين فإنه عندما فُحِصَت عيّنات منها جاءت النتيجة لتكشف أنها مخلفات تعدين بها نسبة عالية من الذهب الخام، وقد نُقِلَ النقيب الذي منع مغادرة الشحنة بعدها إلى إحدى الولايات السودانية الحدودية بعد الواقعة بيومين حسب إفادات زملائه بمطار الخرطوم. وقد أكّدت جيهان إلياس، الناطق الرسمي باسم شركة مطارات السودان القابضة، لـ “ميدان” أنه فعلا قد ضُبِطَت الشحنة المذكورة وأُوقِفت وسُلِّمت للأمن الاقتصادي وفق الإجراءات القانونية المُتَّبعة.
كما أورد ثلاثة من عُمّال الشحن والتفريغ الذين تحدّثنا معهم ملاحظتهم لتكرار دخول سيارات كبيرة مُحمَّلة بصناديق عبر إحدى البوابات من الناحية الخلفية للمطار لتقف بالقرب من إحدى الطائرات المستعدة للمغادرة، ثم تُفرِّغ حمولتها تحت حراسة مُشدَّدة وبسرعة كافية قبل المغادرة. وفي هذا الصدد تقول إلياس إنه خُصِّصَت بوابات محددة للدخول من أجل الضبط وإحكام التفتيش، وأكّدت ما يتعلّق بتورّط موظفين وعُمّال بالمطار في مساعدة مُهرِّبي الذهب عبر استلام الكمية خارج المطار ثم تسليمها لصاحبها داخل الطائرة أحيانا في عبوات الأكسجين التي يتم شقّها أو في العربات التي تحمل الوجبات إلى داخل الطائرة، وهم يتجاوزون أجهزة الكشف على اعتبار أنهم معروفون وسط زملائهم.
ويؤكد لنا أحد موظفي شركات الطيران؛ الرواية التي اتفق على تفاصيلها ثلاثة من المصادر العاملة بالمطار، حيث قال: “كانت هناك سيدة خمسينية مسافرة على إحدى شركات الطيران العربية دخلت الطائرة عبر سيارة إسعاف التي حملتها على أساس أنها مريضة، وعند دخولها للطائرة دخل معها سائق الإسعاف الذي بادر بتفريغ أسطوانة أكسجين من سبائك ذهبية ووضعها داخل حقائب السيدة والطائرة على وشك الإقلاع، وكانت هناك سيدة بريطانية تراقب المشهد فأخبرت المضيفة عقب الإقلاع، والتي بدورها أخطرت كابتن الطائرة الذي عاد مباشرة إلى الخرطوم، ومع هبوط الطائرة أدرك سائق الإسعاف أن هناك أمرا سيقع فهرب”.
وتُقِرُّ جيهان بثبوت تهمة تهريب الذهب على عدد 11 عاملا وموظفا بمطار الخرطوم الدولي خلال الفترة من 1-1-2018 / 29-3-2019، وقد أُوقِفوا عن العمل نهائيا بعد التحقيق معهم، وبعدها اتخذت الإدارة إجراءات تفتيش لكل العاملين مع منع دخول أي سيارة إلى “مدرج إقلاع الطائرات” حتى لو كانت تتبع لإدارة المطار، ويسمح لها بالدخول وفق الإجراءات القانونية اللازمة.
وأُجري تعديل على المادة 57 من القانون الجنائي بإضافة نص جديد حمل عنوان “الإضرار بالاقتصاد الوطني” مفاده أن كل مَن يُهرِّب أو ينقل أي بضائع أو سلع ممنوعة أو مُقيَّدة بقانون أو يقوم بتصديرها أو يشرع في ذلك بقصد المنع والبيع والتحايل أو بتهريبها خارج السودان يُعتَبر مرتكبا لجريمة الإضرار بالاقتصاد الوطني، وحدد التعديل العقوبة بالسجن مدة لا تتجاوز 10 سنوات أو بالغرامة ومصادرة الوسائل المستخدمة في ارتكاب الجريمة.
لوبيات الذهب السوداء
حصلنا على مستند رسمي مُفصَّل صادر من هيئة الجمارك يُوضِّح الصادرات السلعية في كلٍّ من عامي 2017 و2018، ويكشف عن كمية صادر الذهب في 2017 والتي بلغت 37,5 كيلوجراما فقط بقيمة 1,56 مليون دولار تقريبا بنسبة مساهمة في إجمالي الصادرات وصلت إلى 38.8%، في وقت وضَّح فيه جدول آخر في المستند ذاته أن كمية الذهب المُنتَجة في العام 2017 وصلت إلى 107 طن، وقد تراجع الإنتاج في العام التالي 2018 إلى 93,6 طنا، تم تصدير 20,1 طنا فقط منها بقيمة 832.2 مليون دولار بنسبة مساهمة في إجمالي الصادرات وصلت إلى 23.9%.
فيما يُوضِّح مستند لملخص صادرات السودان خلال الفترة من يناير إلى يونيو للعام الحالي، حصلنا على نسخة منه، أن صادر الذهب خلال الفترة أعلاه كان عبارة عن 6,7 كيلوجرامات تقريبا بقيمة 280 ألف دولار، إلا أننا حصلنا على معلومات أخرى من مصادر موثوقة بمطار الخرطوم الدولي (نحتفظ بذكر أسمائها ومناصبها لسلامتهم) أكّدت أنه حسب السجلات فإن صادر الذهب خلال شهر فبراير من العام الجاري فقط كان 1,8 طن تم تصديره من قِبل ثلاث جهات هي: شركة السبيكة الذهبية، شركة الدوايشة، الحاج محمد (وهو مشترٍ مستقل)، أي إن الفاقد الفعلي المُهرَّب في الفترة المذكورة هو بضعة أطنان على أقل تقدير.
وقادت حملة ضغوط شرسة تمت بواسطة مسؤولين نافذين بالحكومة السودانية السابقة إلى تراجع البنك المركزي عن قرار مجلس الوزراء بالرقم 455 القاضي بإعادة حصيلة الصادر إلى البنوك المحلية، وكان منشور البنك المركزي الصادر بتاريخ 7-10-2018 قد أكّد أن حصيلة صادر ذهب شركات الامتياز هي حق لحكومة السودان وليس للمُصدِّرين، ويكشف الوزير السابق كرامة أيضا عن أن كمية الذهب التي صدَّرتها شركات الامتياز وعددها 7 خلال أعوام 2011-2018 تُقدَّر بـ 6,5 مليارات دولار. ويُعرف عقد حق الامتياز بأنه عقد بين طرفين مستقلين قانونيا واقتصاديا يقوم بمقتضاه أحد طرفيه -والذي يُطلق عليه مانح الامتياز (حكومة السودان في هذه الحالة)- بمنح الطرف الآخر (الشركات) -ويُطلق عليه ممنوح الامتياز- الموافقة على استخدام حق أو أكثر من حقوق الصناعة أو المعرفة الفنية لإنتاج سلعة أو توزيع منتجاته وفقا لتعليمات مانح الامتياز، وتحت إشرافه حصريا في منطقة جغرافية محددة ولفترة زمنية محددة مع التزامه بتقديم المساعدة الفنية وذلك نظير مقابل مادي أو الحصول على مزايا أو مصالح اقتصادية.
هنا يتدخل كرامة شارحا لقُرّاء ميدان: “اتضح أن شركات الامتياز التي دخلت بغطاء شركات أجنبية هي شركات مملوكة لنافذين بالدولة، واكتشفنا من خلال العقود أن الدائرة المقربة من الرئيس المخلوع عمر البشير هم أعضاء في مجالس إدارات أغلب شركات الامتياز أو يمتلكونها من الباطن”.
ويؤكّد حديث كرامة مصدرٌ آخر رفيع بوزارة المعادن رفض الكشف عن اسمه، وقال لنا إن بعض شركات الامتياز منحت أفرادا من أسرة الرئيس المخلوع أسهمًا لضمان حصولها على تسهيلات وامتيازات وسهولة تخطي الإجراءات الأمنية باستخدام أسمائهم، وهو أمر وصفه مصدر عدلي مطلع إضافة لإعفاء شركات تعدين سودانية من حصائل الصادر بأنه “فساد حكومي”، ووصف المصدر في حديثه لنا الإجراء بغير الصحيح، مؤكِّدا أنه يُخالف منشور بنك السودان المركزي بخصوص حصائل الصادر.
ويصل الإنتاج السنوي للسودان من الذهب إلى 200 طن تُقدَّر قيمتها بما بين 7-8 مليارات دولار، وهو مبلغ كان يمكنه أن يُنقذ البلاد من شح سيولة نقدية. ويتهم الخبير الاقتصادي والأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم الإدارية بجامعة النيلين الحكومية د. عبد الله الرمادي نافذين في السلطة بالضلوع في تهريب الذهب عبر مطار الخرطوم، إلى جانب اتهامه لمجموعات مُتنفِّذة تقف وراء إصدار البنك المركزي للسياسات المتعلقة بشراء وتصدير الذهب والتي وصفها بالمتخبِّطة وتصبُّ في مصلحة مجموعة محددة مستفيدة من إنتاج الذهب وتهريبه، ويؤكّد الرمادي أنه حصل على معلومات مؤكَّدة من خبراء جيولوجيين بأن الإنتاج السنوي للبلاد يصل إلى 200 طن تُقدَّر قيمتها بما بين 7-8 مليارات دولار، وهو مبلغ كان يمكنه أن يُنقذ البلاد من شح سيولة نقدية أقر بها أمام البرلمان السوداني المنحل محافظ البنك المركزي حسين جنقول، مما دفعهم لطباعة نحو 47.7 مليار جنيه سوداني خلال العام الماضي فقط، وهو ما يفوق مجموع المطبوع خلال العامين السابقين لذلك كما قال.
الذهب مقابل الغذاء
بعصبية غير خافية، تحدث معنا رئيس شعبة مُصدِّري الذهب السودانية التابعة للغرفة التجارية -منظمة شبه حكومية- عبد المنعم الصديق لافتا النظر إلى أن شعبة مُصدِّري الذهب بكامل عضويتها متوقِّفة عن التصدير حاليا بسبب الامتيازات التي تمنحها السلطات السودانية لشركات امتياز محددة مع غض الطرف عن تجاوزاتها في تهريب الذهب، وفيما يتعلَّق بحصائل الصادرات التي تُودع في بنوك خارجية في مقابل ذلك؛ كانت الحكومة السابقة تحصل مقابلها على شحنات من الدقيق والوقود اللذين تُعاني البلاد من شحٍّ فيهما. ويُشير الصديق إلى أن الغرفة لا علاقة لها بالكميات التي تُصدِّرها شركات الامتياز، وأنها تعلم فقط ما تُعلنه وزارة المعادن من أرقام صادر الذهب وهي أرقام لا تشمل إنتاج شركات الامتياز. وقد حصلنا على صور من التقارير الخاصة بالشركات التي يُسمح لها بالتصدير بدون قيمة، أي بمعنى دون إعادة أموال الصادرات إلى خزينة الدولة. وتُظهر المستندات استفادة نافذين ومقربين من النظام السابق وآخرين من حقوق الامتياز، والتي تمنحهم احتكار قانوني واقتصادي لإنتاج سلعة الذهب وتوزيعها، وذلك عبر دخولهم بغطاء شركات أجنبية وشُركاء أجانب.
ويبلغ عدد شركات التعدين 243 شركة، منها 11 شركة امتياز، والعاملة منها فعليا تسع شركات وفقا لـكرامة، وفيما منحها البنك المركزي استثناءات وفقا لمنشور رسمي، فإن كرامة يرى أن أخطاء صاحبت العقود الموقَّعة، موضحا بأنه رغم أن نصوص المنشور فيها إشراف ووجود للدولة، فإن الممارسة تختلف تماما عن العقود، مما أثَّر بصورة كبيرة على استفادة البلاد من الثروة الذهبية فيها، ويُلخِّص الأخطاء في أن الدولة لم يكن لها إشراف على ما تُنفقه الشركة في مرحلة ما قبل الإنتاج التجاري والتي تصل إلى خمس سنوات، وتتلقى الدولة فقط ما ترصده أي شركة في فواتيرها دون التأكّد من أن هذا الصرف كان فعليا، ويرى أن هذا يسمح للشركات بأن تُضخِّم صرفها بالفواتير، وأن تَعتَبِر الشركات هذا الصرف ديونا على الدولة وتأخذ كل إنتاجها على اعتبار أنه سداد للديون، ويُضيف أن الخلل في مرحلة الإنتاج وفي توزيع الشركة السودانية موظفيها على 73 منطقة إنتاج في حين يوجد 713 موقعا للإنتاج بمختلف الولايات، وبالتالي فإن وجود الدولة ضعيف للإشراف على الكم المنتج فعليا، وهم يأخذون فقط ما تُعلنه الشركات. ويعيب على الحكومة السودانية توقيعها للعقود التي تمنح شركات الامتياز الحق في تصدير 70% من إنتاجها دون حصول الدولة على حصيلة الصادرات ومن ثم توريدها بالبنوك المحلية، لافتا إلى أن هذه النسبة ثابتة على مدى 25 عاما فترة سريان الاتفاقية، ويُفترض أن تتناقص النسبة على اعتبار أن الذهب مورد ناضب، ويكمل كرامة بأسى قائلا: “هلع الحكومة لتعويض الفاقد من البترول أعمى بصيرتها وسيكون ذلك وبالا على السودان”.