)1(
سعدت كثيراً بالنقاش الثر في موضوع السماح للمنتجات الزراعية المصرية بالرجوع للسوق السودانية بعد منع طال، فكانت العودة بقرار رئاسي، مع إعلان المواصفات السودانية أنها سوف تقوم بالواجب تجاه كل الواردات المصرية، كما تفعل مع غيرها. بعبارة أخرى المعيار الفني سيظل موجوداً، فالرأي العام السوداني في معظمه قال إن قضيتنا مع المنتجات الزراعية المصرية ليست في صحيتها من عدمها، إنما لماذا نستورد نحن منتجات زراعية من مصر أو غيرها علما بأننا عالميا مصنفون من الدول ذات الإمكانيات الزراعية الضخمة، وأنه لا توجد مقارنة بين إمكانياتنا الزراعية وإمكانية مصر، بالتحديد من حيث المياه العذبة والأرض السهلية المنبسطة والشمس الساطعة، فمصر تشكو فقراً مائياً مُدقعاً وضيّقاً في الرقعة الزراعية، ومع ذلك تكفي نفسها، وتغزو الأسواق العالمية بمنتجاتها الزراعية؛ فالفرق بيننا وبين مصر يكمن في البشر، فمتى يستقيظ البشر السوداني؟ ومتى يلتفت إلى الثروة التي يجلس عليها؟ وفيما يتعلق بالمقارنة مع مصر كان السؤال متى تكبر العيال ومتى تتساوى الكتوف؟ والله يقطع طاري المحقة والخيبة السودانية، فمشكورة المنتجات الزراعية المصرية التي أعطتنا )قرصة أضان حاااارة(، قبل أن )نكضم( أبو صرة أو نتكرَّع الفراولة.
)2(
الأستاذ الصحفي الكبير بكري المدني، في عموده الجهير )البعد الثالث(، ذهب في ذات الاتجاه الذي ذكرناه أعلاه، ولكنه حرَّر نقطة مهمة، وهي أننا عندما نقول ذلك ليس من منطلق عداء مع الشعب المصري، إنما نقد لذاتنا، والدليل على ذلك أن بكري دعا إلى قدوم مليون فلاح مصري للسودان، قائلا: لا للمنتجات المصرية ونعم للمنتجين المصريين، فالفلاح المصري في تقدير بكري هو الذي أحدث الفارق لخبرته الطويلة وكدِّه المعروف. في ذات اليوم الذي كتب فيه بكري ذلك الكلام كتبت هنا داعيا الرأسمال المصري والخبرة المصرية للاستثمار الزراعي في السودان؛ فمع اختلاف الوسيلة الدعوتان تلتقيان في إمكانية وضرورة التكامل بين البلدين، وهذا في تقديري ينبغي أن يكون أمراً استراتيجياً، لكن للأسف حجبته السياسة وضيق الأفق وتقديم الآني على المستقبلي، وهذه قضية أخرى.
)3(
ليسمح لنا صديقنا بكري بمراجعته في فكرته، بتفليح السودان مصرياً، أي استقدام فلاحين من مصر رغم أن هذه الفكرة فكرة قديمة جددها الدكتور الترابي ذات مرة، وغيره ذهب للقول بضرورة استجلاب عنصر مصري لتغيير التركيبة الإثنية في السودان، لكن خلّونا مع البعد الاقتصادي، فهناك تجربة إعادة توطين فلاحين مصريين في العراق صاحب الإمكانيات الزراعية المشابهة للسودان في منتصف القرن الماضي، تلك التجربة التي لم تنجح لعوامل كثيرة. مشكلة محقتنا وخيبتنا الزراعية، ليست مشكلة أيدٍ عاملة إنما مشكلة تخلف تقني. المزروعات السودانية مثل الإنسان السوداني تعاني أنيميا قاتلة؛ ففي مصر متوسط ما يُعطى للفدان من السماد خمسمائة كيلوغرام، بينما في السودان ثمانية كيلوغرامات فقط!! تحضير الأرض, مبيدات الحشائش والآفات وعمليات الحصاد، والأهم من ذلك التسويق، كلها في السودان متخلفة، والدولة لم تُعطِها حقَّها، والمزارع جاهل بها. أسعار المدخلات ترتفع مع أسعار الدولار، وبرضو يقول ليك عاوزين إنتاج. فيا صديقنا خلي الحكومة تدفق في البلاد مليون طن سماد )داب, يوريا, ورقي( وتاني تعال شوف الإنتاج.
)4(
لحسن الحظ بلادنا الآن تشهد تجارب زراعية أخذت بناصية آخر ما وصل إليه العالم من تقنيات زراعية، وبكري زار بعض المشاريع الحديثة وكتب عنها، فبلادنا تشهد اليوم ثورة في شتول الفواكه وفي تقاوي المحاصيل وطرق الري, ري محوري وري بالتنقيط، بالإضافة لتطور في الانسيابي والحزم التقنية في التحضير، وفي المكافحة وفي الحصاد؛ ففي البلاد اليوم حاصدة قطن بمليون دولار، والتحدي الآن هو كيفية تعميم هذه التجارب المحدودة، فيا حكومة ويا دولة ويا رأسمالية ويا شعب، متى تخرجون من “دولار، عقار، شيك سياحي”، إلى الأرض البور البلقع؟ لقد هرمنا.