)1(
موقف السُّودان الفني من سد النهضة الإثيوبي كان مُنقسماً انقساماً غريباً، فبعض كبار الفنيين يرون أنّ السد فيه فوائد جَمّة للسُّودان، وأن مخاطره لا تسوى أيِّ شيءٍ مع تلك الفوائد، لا بل تَطَرّف بعضهم وقال إنّ السد سوف يفيد السودان أكثر من إثيوبيا ذات نفسيها، ولو أنّ هذا السَّد قد قام من زمنٍ لاستغنى السودان عن تعلية الروصيرص وعن إقامة أيّ سدٍّ آخر، بينما رأي فنيون آخرون أنّ السّد سوف يضر بالسودان كثيراً، وأنّ الفوائد الناجمة عنه لا تسوى شيئاً مُقارنةً بمضاره، لا بل رآه البعض كارثة سوف تحل بالسودان، وللأسف الشديد لم تنعقد ندوة علمية في أيِّ مُؤسّسة من مُؤسّسات البلاد لتوفق بين هذه الآراء الفنية ومن ثَمّ تصدر رؤية سُودانية مُوحّدة يَتَبنّاها مُتّخذ القرار، وكل الذي حدث ندوات وجلسات أحادية الرأي مع شوية تراشقات إعلامية بين الفريقين في بعض الصحف وبعض القنوات..!
وفي تقديري، إنّ هذا أمرٌ مُؤسفٌ ويدل على المَحَقَـة والبشتنة والضيق بالرأي الآخر، الذي أصبح مُتلازمة من مُتلازمات الحياة في سُودان اليوم وهذه قصة أخرى..!
)2(
أمَّا الرأي السِّياسي رسمياً وإلى حَدٍّ مَا شعبياً، كان مُرحّباً بسد النهضة، الرأي العام الشعبي نابعٌ من مَظَنّة أنّ المصريين قد تلاعبوا بنا في اتفاقية مياه النيل لعام 1959.. أما الرأي الرسمي قد كان رد فعل للسياسات الرسمية المصرية تجاه السودان، خَاصّةً احتلال حلايب، وبالمُقابل كانت العلاقات الرسمية مع نظام ملس زيناوي قد وصلت مرحلة العلاقة الاستراتيجية، وَكَانَ التّنسيق بين البلدين قد وصل مراحل مُتقدِّمة لم يشهدها البلدان من قبل )وربما من بعد(، وقد انبرت وزارة الري في السودان بشقيها الفني والسِّياسي للدفاع عن سد النهضة، وقد سبق لي أن انتقدت موقف الوزارة هذا في عدة مقالات، الأمر الذي دعا السّيّد معتز موسى وزير الري يومها أن يدعوني للقاء به، وبالفعل التقيت به في الوزارة، وَقَد كَانَ رأيي أنّ الوزارة قد اندفعت في مُساندة سد النهضة أكثر مِمّا يجب، وأنّها قد هوّنت من مضاره واستصحبت الفوائد فقط، وأنّ العلاقات مع مصر أو مع إثيوبيا مُتغيِّرة وليست ثابتة، وبالتالي لا ينبغي البناء عليها في أمرٍ مصيري كهذا، وأنّه على وزارة الري أن تتمسّك بالجانب الفني فقط، وقد استمع سيادته لوجهة نظري بكل رحابة صَدرٍ عُرف بها ودافع عن موقف الوزارة الذي وصفه بأنه محكومٌ بمَصلحَة السُّودان.
)3(
الآن في اليوم العلينا دا، مرّت مياهٌ كثيرةٌ في بحيرة السد، فتغيّرت الأوضاع السِّياسيَّة في المنطقة، وبدأ هذا التّغيير برحيل السّيّد ملس زيناوي وصعود السّيّد آبي أحمد لسدة الحكم في إثيوبيا، وهذا التّغيير لم يكن في الأشخاص، إنّما في السِّياسات، رغم أنّ الرجلين ينتميان لحزبٍ واحدٍ وهذه طبيعة الأنظمة في العالم الثالث، حيث إنّ السِّياسات مُرتبطة بالأفراد وليست هناك مُؤسّسية، وبالتالي ليست هُناك مَواقفَ استراتيجيّة، إنّما الشغل كله تكتيكات، وعلى أحسن الفُروض لكل قادمٍ جديدٍ استراتيجية خَاصّة به، فتغيّر موقف إثيوبيا ذات نفسيها من سد النهضة، الأمر الذي أحرج السودان وأسعد المصريين..!
وغداً إن شاء الله نواصل في هذا الموضوع
ربما تحتوي الصورة على: شخص واحد