حالة من عدم الاكتراث تبدت في الشارع السوداني وهو يتحدى فرض حالة الطوارئ حتى قبل سريانها بانتظار المصادقة عليها من قبل البرلمان. وحتى وضع الجيش في الواجهة فيما يشبه الانقلاب، حسب وصف مراقبين، لم يوقف الاحتجاجات المطالبة بإسقاط النظام.
وتحدى آلاف السودانيين أمس الأحد حالة الطوارئ التي أعلنها الرئيس عمر حسن البشير الجمعة الماضية، وخرجوا في مظاهرة وصفت بالضخمة في أم درمان هاتفين “الشارع بس.. تسقط بس”.
ورغم التعديلات الكبرى التي أجراها البشير بعد دخول الاحتجاجات شهرها الثالث، فإن الوجوه الجديدة التي دفع بها إلى الواجهة فتحت باب التحليلات أكثر من نيلها القبول أو الرفض.
وقال أحد الناشطين على منصات التواصل الاجتماعي إن الخرطوم تعيش “أجواء الانقلاب ورئيس البلاد يعين جوقة من العسكريين والأمنيين” حكاما على الولايات، ثم يأتي هو وولاته إلى مراسم أداء القسم ببذاتهم العسكرية، في وقت تبث فيه القنوات الفضائية والإذاعات تغطيات حول الجيش مصحوبة بما يسمى الجلالات (أغاني الجيش)”.
حالة مزاوجة
ويقول الطيب العباسي القيادي في التجمع الاتحادي المعارض -أحد أطراف تجمع المهنيين- إن الرئيس ومن اجتهد معه في هذا “المخرج السيئ” حاول المزاوجة بين وجهتين خارج الإطار الوطني، تتعلقان بأطراف الصراع في منطقة الخليج العربي.
ويضيف العباسي للجزيرة نت أن حلفا يريد إقصاء الحركة الإسلامية، وآخر مهمته مساندة الوجود الإسلامي في المشهد السياسي في السودان.
ويرى أن المزاوجة بين الرؤيتين وضغوط الحلفين أجبرت الرئيس على “إنتاج مولود مشوه، ظاهره انقلاب عسكري وباطنه إبقاء شعرة معاوية بين حزب المؤتمر الوطني والرئيس”.
ويشير إلى أن ذلك يبدو من خلال تمكين الحزب في الولايات عبر تعيين ولاة عسكريين في الأساس هم من الإسلاميين، وهو ما سيكون عليه التشكيل الوزاري أيضا.
فك ارتباط
بيد أن عضو مجلس الولايات والقيادي في حزب المؤتمر الشعبي المشارك في الحكومة تاج الدين بانقا يرى أن النموذج الانتقالي الذي أقره البشير يتبدى في تعيين ولاة عسكريين وتعيين نائب أول له ورئيس مجلس وزراء من دون الرجوع للمكتب القيادي لحزب المؤتمر الوطني.
ويؤكد بانقا للجزيرة نت أن الخطوة بمثابة فك ارتباط بين الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات وبين الحزب الحاكم، الذي لم يعد حاكما -بحسب قوله- مستدلا بأن البشير اجتمع باللجنة العليا للحوار الوطني أولا وبعدها ذهب لاجتماع الحزب لتنويره بالقرارات.
وبشأن حالة الالتباس جراء التباين بين حديثي البشير ومدير الأمن حول علاقة الرئيس بحزبه والتعديلات الدستورية المتعلقة بالتمديد لعهدة رئاسية ثالثة، يقول بانقا إن الإجراءات العملية التي اتخذت بشأن الحكومة الانتقالية تقطع الطريق أمام أي شكوك.
وبدا واثقا وهو يقول إن الحكومة الآن ليست محاصصة بين أحزاب وإنما حكومة كفاءات، وبعد أن فك البشير الارتباط مع حزبه سيتحمل وحده مسؤولية أي إخفاق في الحكومة.
القادمون الجدد
وأطاحت التغييرات التي أجراها الرئيس بنائبه الأول الفريق أول بكري حسن صالح، آخر بيادق “مجلس قيادة ثورة الإنقاذ الوطني” الذي نفذ انقلاب 30 يونيو/حزيران 1989 مع البشير.
وامتدت أيادي التغيير إلى رئيس مجلس الوزراء معتز موسى الذي لم يكمل عاما في هذا المنصب، ليحل مكانه والي ولاية الجزيرة محمد طاهر إيلا.
والفريق أول عوض بن عوف ضابط الاستخبارات الذي حاز إلى جانب حقيبة وزارة الدفاع منصب النائب الأول للرئيس، جاء ضمن موازنة الحفاظ على تأثير الجيش، خاصة وأن الرجل لم يعرف عنه أي نشاط حزبي.
ولا يبدو إيلا بأحسن حالا من ابن عوف في علاقته بالمؤتمر الوطني، ورغم أنه إسلامي قديم، فإنه دخل في صراعات مع عضوية الحزب وأقصى كثيرا منهم عندما شغل منصب الوالي في ولايتي البحر الأحمر والجزيرة.
رجل الإطفاء
ويعتبر محللون أن محمد طاهر إيلا هو رجل إطفاء حرائق بامتياز عبر إنجاز مشروعات الخدمات والتنمية، وهو ما فعله بعد تعيينه واليا على ولاية البحر الأحمر في 2005 بعيد أحداث بورتسودان التي سقط خلالها أكثر من 20 قتيلا.
إيلا خلال أدائه القسم (رويترز)
وفي 2015 عين الرئيس إيلا واليا على ولاية الجزيرة إثر تفلت الولاية الملاصقة للخرطوم من أيادي حزب المؤتمر الوطني الحاكم إبان آخر انتخابات، كما أن الولاية ولغبن متعلق بإهمالها انطلقت منها شرارة احتجاجات سبتمبر/أيلول 2013.
واشتهر أيلا بدخول صراعات مع المجالس التشريعية في الولايات التي حكمها، ودائما ما خرج منها منتصرا بفضل مساندة البشير.
وبسبب مشروعات خدمية وتنموية نفذها الرجل في الجزيرة، قال البشير في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 إنه سيدعم ترشيح إيلا لمنصب الرئيس إذا رشحه مواطنو الولاية في انتخابات 2020.
لكن قطعا سيكون التحدي أمام رئيس مجلس الوزراء الجديد كبيرا في ظل أزمات شح الوقود والنقود ومعدلات التضخم القياسية والترنح المستمر للعملة الوطنية “الجنيه” أمام بقية العملات.
تحليلات متباينة
ومنذ أن تلا البشير قراراته يوم الجمعة الماضي فتح الباب أمام تأويلات شديدة التباين بشأن مقاصدها ونواياه الشخصية، ووصف الناشطون خطابه بـ”خطاب الاختيارات الصفرية” لكثرة ترديد المصطلح الذي ربما عنى تنحيه عن السلطة كما يطلب المحتجون.
وأعاد غموض الخطاب في بعض جوانبه للأذهان “خطاب الوثبة” الذي ألقاه الرئيس لدى إطلاقه مبادرة الحوار الوطني يوم 27 يناير/كانون الثاني 2014.
وبين المؤسف والمحبط وضع الطيب العباسي خطاب الرئيس، لجهة أن قراراته كانت دون قيمة الحراك الثوري العميقة والسامية.
الاحتجاجات في السودان دخلت شهرها الثالث (رويترز)
في حين يرى تاج الدين بانقا أن الخطاب فيه استجابة كبيرة لمطالب المحتجين، وهو بمثابة سقوط الحكومة لأن الرئيس حلّ الحكومة وشكّل أخرى من كفاءات، مما يعني حكومة انتقالية.
مقياس الشارع
وأكد العباسي أن الاحتجاجات ستستمر، بل أبدى ثقته في أن الضلع الثالث وهم الواقفون على الرصيف سيدخلون ضمن “الحراك الثوري” لإكمال ضلعي تجمع المهنيين “الشباب” والأحزاب، معتبرا أن الرئيس أدخل نفسه في “ورطة ووعسة”، وهو ما سيعجل بسقوط البشير ونظامه.
في المقابل، يقول بانقا إن البشير تحرك من مربع “تقعد بس” إلى حكومة أزمة، مطالبا الشباب بالتحرك من مربع “تسقط بس” وطرح تصورات للخروج برؤية وسط. وأضاف أن السؤال المهم للشباب هو “كيف يحكم السودان وليس من يحكمه؟”.