طلبت من ابنتي مرافقتي لحضور زواج ابنة احد اقاربي ..سألتني هند عن درجة القرابة بينها وبين العروس ..تفكرت قليلا وقلت لها (يعني في الحسبة كدا بت خالك ..لانو ابوها يبقى لي ود خالتي ..امو تقرب لي امي بت خالها ..الله يرحمهم جميعا) ..ضحكت هند طويلا لتقول لي وهي تلتقط انفاسها (يا ماما ..دا اسمو التقريب لأقرب منزلة عشرية)…غايتو الجيل دا ..صعب خلاص ..لكن بيني وبينكم كلامها صحيح ..اعتقد اننا الشعب الوحيد على ظهر الأرض ..الذي يستخدم التقريب والمقاربة في امور النسب والقرابة .
يقول لك أحدهم ..الزول دا اخوي ود عمتي طوالي ..وللا اخوي ود خالتي لزم (يبقى ما اخوك ولا شنو ) ..لكن الامر في خلاصته يعطيك لمحة عن المودة والدفء الأسري الذي لن تجده في شعوب كثيرة ..نحن الشعب الوحيد الذي يختصر لك القرابة بكلمة (الزول دا مننا ..او الزول دا سرنا) ..وفيها يغنيك عن الدخول في تفاصيل شجرة العائلة التي تفرعت وتشعبت وازهرت واثمرت ..وغاصت جذورها بعيدا في الأرض ..وقديما صدح العطبراوي مخاطبا السمحة ..ست البنات:
(ولا جيتي مارة علينا يوم
زرتينا يا جارة الهنا
ولا قلتي يوم أسأل عليهو
الزول قريبنا ومننا)
كلمة (مننا ) تلك كانت جواز مرور ..ليس فقط للمجاملة ومشاركة الأفراح ومشاطرة الاحزان ..وانما هي سبب رئيس للزيارة والسؤال عن الحال والأحوال ..كانت القرابة لا تعرف المنازل العشرية ..ولا الكسور بسيطة كانت ام مركبة ..بل كانت لا تخضع لقوانين الرياضيات ونظريات فيثاغورث او قوانين نيوتن .. ..كانت كلها في خانة الواحد الصحيح .. ..وربما صادفتك قرابة في شكل كسر دائري لا ينتهي ..نوع ذلك الذي تعرفه جدتي رحمها الله ..حين تسألها ماذا يقرب لك فلان ..لترد هي بعد ان تعتدل في جلستها وتقول (فلان تيرونا ) يعني قريبنا ..والقرابة تبدأ بانه ابن عم بنات خال اولاد خالك غير الشقيق ..الذي سافر وتزوج من تلك البقعة ..وتزوجت ابنته من ابن عمة اولاد خيلان ناس فلان ..) المهم ترضى من الغنيمة بفلان الاخير الذي ربما تصادف انك تعرفه..هذه الحلقة الطويلة ..والتي ربما لا تصل الى نهايتها ..تجعلك ملزما بالسؤال والمتابعة ..وملوما محسورا في حالة التقصير.
كانت المجاملات في ذلك الزمن التزام وليس تفضل ..وياما سافرنا من عطبرة الى الخرطوم ..او حلفا الجيدة او وادي حلفا ..لكي نشارك احدهم زواجه ..او نعزي في وفاة قريب عزيز ..تشكلت حياتنا من تلك الذكريات وتلك اللقاءات ..عرفنا وتعارفنا ..لكننا عجزنا عن نقل ذلك لابنائنا ..صعبت الحياة .تباعد الناس وبعدت الشقة ..وصارت المجاملة بالتهنئة عبر الواتساب ..وربما ارسلنا صورة تلك الفتاة التي تزغرد ..تعبيرا عن فرحتنا بالزواج الميمون ..او كتبنا في حالة العزاء ..نشاطركم الأحزان ..وبس خلاص
لماذا لا يتعارف ابناء هذا الجيل ؟ او لماذا لا يبذلون جهدا في بناء صلات رحم قوية ..ويكتفون بالقرابة من الدرجة الاولى ..والثانية ..ويختصرون التعامل بالمنازل العشرية ؟؟ هل كان الخطأ من جانبنا نحن الذين لم نسلمهم الامانة كما تسلمناها ؟ ام اننا تآمرنا عليهم لأن جزءا منا ضجر من كثرة المجاملات والارتباطات الأسرية ..وعقولنا التي لا تحتمل صارت لا تقدر على ربط القرابات ومتابعتها ؟ ..اي كان السبب يا صغيرتي ..لن يضيرك شئ ان جبرت الكسور للواحد الصحيح ..وقربت الأرقام لأقرب منزلة عشرية ..حينها ستنعمين بحب الأهل وطيب معشرهم ..وتنهلين من نبل صحبتهم ..وفيض محبتهم ..وانت تستمعين لود الامين وهو ينادي (قرب ..تعال ما تبتعد ).