قطعاً هو السباق الذي يشوبه الحذر، طريقٌ اتّخذه قطبا السياسة الدولية حيال ما يحدث من تغييرات في المشهد السياسي بالبلاد عقب استيلاء الجيش على السلطة الأسبوع الماضي.. وبدأ سباق الفوز بحليف استراتيجي غَايةً تمّ تغليفها خلف تصريحات رسمية، تقول إن تغيير نظام الحكم في الخرطوم شأن داخلي.. ورسمت تلك الملامح مواقف كل من موسكو وواشنطن اللتين ظلتا ترقبان تطوُّرات المشهد السياسي بالبلاد بعين المُراقب.. ما هو موقف كل من روسيا وواشنطن حيال المشهد السياسي الراهن بالبلاد.. مَاذا يدور على الطَاولات الرسمية داخل البيت الأبيض والكرملين حَول التّغييرات على السَّاحة السِّياسيَّة في الخرطوم..؟
نهاية الأسبوع الماضي جاء إخطار السفارة الروسية بالخرطوم “أن رعاياها في السودان ليسوا في خطرٍ عقب نجاح انقلاب عسكري في الإطاحة بالبشير”.. ملوِّحةً بعدم نيّتها إغلاق سفارتها أو تعطيل أعمالها.. ربما أرادت بذلك بعث رسالة بعدم تغيير موقفها أو اتّخاذها موقفاً سلبياً حيال ما حدث في السودان من تغيير.. يُذكر أنّ هناك ما يُقدّر بنحو 140 مواطناً روسياً مسجلون في السودان.
وبدأ الموقف الروسي تجاه الأحداث بالبلاد متناقضاً، إذ انتقد المشرعون الروس الانقلاب في السودان باعتباره “غير دستوري”، وأعلن رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الاتحاد الروسي، قسطنطين كوساتشوف، رفضه لأيِّ سيناريو لتغيير السُّلطة في السودان بطريقةٍ غير دستورية.. بَينما تبنّت الرئاسة الرُّوسية مَوقفاً بدا مُختلفاً عن موقف مُشرِّعيها عندما وصف المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف، ما يجري في السودان بـ “شأن داخلي”، وقال بيسكوف: “نُراقب الوضع عن كثبٍ، ونأمل ألا يكون هُناك تصعيدٌ يؤدي إلى حُدُوث خسائر بشرية، وتمنى أن يعود الوضع في السودان إلى طبيعته”.
وحسب فلاديمير تومسكي، المُلحق الصحفي بالسفارة الروسية، فإنّ الوضع في البلاد لا يَزال هادئاً رغم بعض التدابير، وقال تومسكي لوكالة أنباء ريا نوفوستي الحكومية: “لا يُوجد تهديدٌ للمُواطنين الروس في السودان”، وإنّ السفارة تعتزم مواصلة عملياتها وسط الاحتجاجات، بما في ذلك الاحتجاجات التي تُطالب القادة العسكريين بتسليم السُّلطة لمدنيين.
تعليق
ومن جهة أخرى، بَدَا موقف واشنطن مُختلفاً عن الموقف الرسمي لموسكو بعدما قالت الولايات المتحدة إنّها ستعلق المحادثات مع السودان حول تطبيع العلاقات، وأمرت وزارة الخارجية، مُوظّفي الحكومة الأمريكية عدا الحالات الطارئة بمُغادرة البلاد، وحثّت السفارة الأمريكية في الخرطوم، رعاياها بتوخي الحذر خوفاً من تفاقم موجة الاحتجاجات وفقاً لما جاء في بيان لها، وأضَافَ البيان الذي صَدَرَ عقب الإطاحة بالبشير أنّ السفارة ستغلق أبوابها، وأنّ جميع المُوظّفين بها سيُنقلون إلى مكانٍ آمنٍ.
وحسب تقرير نشرته مجلة “فورن بولسي” بتاريخ الثامن من أبريل الجاري، فإنّ الولايات المُتّحدة وعلى مَدَى عُقُودٍ، قادت وبذلت الجُهُود لعزل السُّودان وجَعلته منبوذاً دولياً، قابلاً للمُقارنة مع كوريا الشمالية وإيران، وفَرَضت عليه عُقُوبات امتدّت لعشرين عاماً رفعت خلال العام 2017، إلا أنّ وجوده على قائمة رعاية الإرهاب رمت بظلالها على الأوضاع في البلاد، وحرمت الخرطوم للتعامل مع العديد من المؤسسات الدولية.. وعقب الإطاحة بالبشير، أعلنت واشنطن تجميد المُحادثات مع الخرطوم، وتعليق نشاط سفارتها بحجة عدم استقرار الأوضاع الأمنية.
أمّــا موسكو، فقد تَعامَلت بشكلٍ مُختلفٍ حَيال التّغييرات في المشهد السِّياسي بالبلاد.. رغم أنّ موقفها بدا مُرتبكاً بعض الشيء عشية الإطاحة بالبشير عندما أعلن مشرِّعوها أنّ تغيير السُّلطة في السودان تمّ بطريقة غير دستورية.. إلا أنّ الرئاسة استدارت برأي يقول إن الأمر شأنٌ داخليٌّ.. وتربط الخرطوم وروسيا علاقات تاريخية، ظلّت متينة ومُستقرة، وشملت مجالات مختلفة، اقتصادية وسياسية.. ونَشَطت أواخر العام الماضي لجنة حكومية رُوسية سُودانية مُشتركة، لدراسة إمكانية تسوية دُيون الخرطوم لدى موسكو، مُقابل تقديم تسهيلات وتوفير مزايا في التعامل مع الشركات الروسية، وتضمن بروتوكول مُوقّع بين البلدين، التّحضير لدراسة جدوى أولية بغَرض بناء مَحَطّة كهروذرية في السودان.. ويُمكن إجمال القول، إنّ العلاقات السودانية الروسية ظلّت تتميّز بالمتانة والاستقرار طيلة العقود الماضية، إلا أنّه من الصعب التكهُّن بمُستقبل تلك العلاقة في ظل مُتغيِّرات الراهن السِّياسي في البلاد.
وبالعودة الى تقرير “فورن بولسي”، فإنّ علاقة واشنطن بالخرطوم التي تعود إلى فترة التسعينات، قد تم تعريفها حسب مُعدِّي التقرير بالسرية والمتناقضة.. وفي عام 1993، اتهمت الولايات المتحدة، الخرطوم برعاية الإرهاب وفرضت عليه عقوبات.
وحسب التقرير، سعت واشنطن إلى عزل الخرطوم، إلا أن وكالة المخابرات المركزية حافظت بهدوءٍ على علاقاتها معها، مستفيدة من التعاون الاستخباراتي ضد الجماعات الإرهابية في شرق أفريقيا. وخلال تدخل حلف شمال الأطلسي عام 2011 في ليبيا، قدم السودان معلومات استخبارية إلى الحلف، وفقاً لتقرير أكده اثنان من المسؤولين الأمريكيين السابقين، ويشير التقرير إلى أنّ السودان عندما قطع علاقات المخابرات مع الولايات المتحدة في عام 2015 (لأسباب لا تزال غير واضحة)، دفع مسؤولو إدارة أوباما بقيادة رئيس وكالة الاستخبارات المركزية جون برينان إلى التقارب.. بعد العديد من المداولات، ظهرت خُطة لإسقاط العقوبات الأمريكية على السودان وإزالة تسمية الإرهاب مقابل قيام السودان بتحسين التعاون في مُكافحة الإرهاب، والوصول إلى المُساعدات الإنسانية وغيرها من الأولويات. تبنى أوباما الخطة، وحذا ترامب حذوه بعد توليه منصبه. برزت كواحدة من مبادرات أوباما القليلة في السياسة الخارجية التي لم يفككها ترامب.
رؤية
وتمثل وجهة نظر تقرير “فورن بولسي”، رؤية مهمة حول استفسارات كيفية تعامل الإدارة الأمريكية مع ملف السودان وبطء التعامل بخُصُوصه، إذ يشير التقرير إلى أنه مثل غيرها من القضايا. في إطار إدارة ترامب، تعطّلت سياسة السودان من خلال عملية صنع القرار، الفوضوية والشواغر في الأدوار العليا الرئيسة في جميع أنحاء الحكومة بواشنطن، وفقاً لثلاثة مسؤولين أمريكيين يُركِّزون على أفريقيا عندما اعتزم وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون إلغاء منصب المبعوث الخاص للسودان وجنوب السودان لوزارة الخارجية كجزءٍ من حملته لإصلاح الوزارة، جلس كبار المسؤولين في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية حول أفريقيا طوال الوقت بهدف إدراج السودان على أجندة السياسة الخارجية لرئيس سخر من الأمم الأفريقية في العام 2018. ويقول هؤلاء المسؤولون إنّ التواصل مع النظام السابق استمر عبر الجمود البيروقراطي أكثر من كونه استراتيجية استباقية.
وخلال فترة الاحتجاجات الماضية، قال مسؤولٌ رفيع المُستوى بوزارة الخارجية الأمريكية، إنّه من المُهم مُواصلة المُحادثات مع الخرطوم، وإن رد الفعل على الاحتجاجات كان مُقيّداً نسبياً بفضل المشاركة الأمريكية جزئياً، وكشف أن عملية إخراج السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب تمضي قُدُماً ولكن ببطء، وقال المسؤول عندما طُلب منه توضيحٌ بشأن التوقيت: “الأمر يتراوح بين ستة أشهر وعشرة أعوام”، ويضغط المشرّعون الأمريكيون، الذين لهم رأي في قرار رفع السودان كدولة راعية للإرهاب على إدارة ترامب لاتخاذ موقف أقوى بشأن حقوق الإنسان في البلاد.
وقال مسؤول في وزارة الخارجية رداً على طلب للتعليق: “نواصل الضغط على الحكومة للاستماع إلى الشعب السوداني بدلاً من سجنه وقمعه”. “نأمل أن تُسمع أصوات الشعب السوداني وأن تُقاد عملية من أجل التغيير والإصلاح بشكل ملموس”. ورغم صعوبة التكهن بمصير الحوار مع واشنطن، وبسير عملية رفع اسم السودان عن قائمة الإرهاب، فإنّ زيارة القائم بالأعمال في السفارة الأمريكية لنائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي لها مدلولات تؤثر إيجاباً في ملف العلاقات مع واشنطن.