(يا شموساً في دروب الليل أشعلن النهارا.. نحن شلناك وساماً وكتبناك شعارا).
(واتخذناك حبيباً وصديقاً وديارا.. نحن صرنا بك يا مايو كبارا)
هذه هي من حكاياتنا مايو ذلك النشيد الذي انطلق مع البداية الحمراء لتلك الثورة من ذاك العهد الذي عرف بالمواجهات والصراعات الدموية التي جرت بين مفجري الثورة ومناهضيها، انقلب العسكر على أنفسهم وانتصر فريق على فريق وضرب اليسار الذي كان متحكماً في مجلس قيادة الثورة ضربة قاضية لم يفق منها طوال عقود مضت من الزمان، انقلب السحر على الساحر وانطفأت الشمعة الحمراء لتدخل مايو بمن تبقى في مجلس قيادة ثورتها مرحلة جديدة من عمرها قوامها الوسطية والقومية العربية، وما عُرف بتحالف قوى الشعب العاملة، مرحلتها تلك شهدت هي الأخرى عدة انقلابات وحركات دموية مسلحة ومواجهات عنيفة منها انقلاب المقدم حسن حسين وحركة يوليو المسلحة 1976م والتي أُطلق عليها اسم (المرتزقة).. لتدخل مايو من بعد ذلك مرحلة المصالحة الوطنية والتي لم تصمد هي الأخرى نظراً لانعدام الثقة بين الجانبين (مايو والأحزاب) وانتهى بذلك جوهر ومضمون المصالحة، وفي أواخر عهدها انتهت مايو بالحقبة اليمينية تلك الفترة التي عُرفت بقوانين سبتمبر (الشريعة)، والتقت مايو مع الإسلاميين الذين انخرطوا في مؤسسات مايو فدخلوا القصر الجمهوري والاتحاد الاشتراكي والبرلمان بموجب المصالحة الوطنية التي تمت، ولكن سرعان ما انقلب عليهم جعفر نميري وزج بهم في السجون وذلك لنيتهم في التآمر على مايو، ولكن تزامنت تلك الفترة مع الانتفاضة الشعبية التي اقتلعت نظام مايو في العام 1985م. مساحة من الحوار بمناسبة قدوم ذكرى 19 يوليو جمعتنا باللواء (م) عمر محكر مدير مكتب جعفر نميري منذ قيام الثورة.. الحوار تطرق لعدد من المحطات السياسية فسألناه بدايةً:
** حركة 19 يوليو والتي ندم عليها الشيوعيون واستفاد منها الإسلاميون من حيث الدروس والعبر في التعامل مع البشير والإنقاذ لاحقاً، كيف تراها؟
ــ حركة 19 يوليو كانت فيها مواقف عجيبة وأذكر أن قائد الانقلاب هاشم العطا كان صديقاً حميماً لجعفر نميري، ومن المشاهد الغريبة فلقد ذهبت إليه بعد أن أذاع بيانه الأول عبر الإذاعة السودانية وكان هدفي من الزيارة هو تذكيره بشيء مهم جداً ذلك بأن الشعب السوداني لا يقبل بأنه يحكمه شيوعي، وقلت له إن التاريخ شهد الكثير من هذه المحاولات ولكننا الآن لا نريد إدخال الجيش في معركة مثل هذه، وقلت له إن هذا التحرك الذي تقومون به لا فائدة منه لأنه يحمل بذرة فنائه لا محالة، وأن هذه القصة منتهية، استمع إلى قولي وهو قادم من الإذاعة ولكنه لم يعتقلني فكان حديثي معه ساخناً وصعباً غير أن رده لي كان هو (نحن يا عمر محكر نحتاج إليك بشدة) ونريد منك التعاون معنا، رددت عليه بالقول (يا هاشم نحن يجب أن نتعاون لإنهاء هذا الانقلاب الذي أقدمتم عليه لأن نتيجته ستكون كارثية ومن هنا افترقنا.
** طالما أبديت تشدداً واختلفتم، بل ولم تفلح مساعيك معه في إثنائه عن هذه الخطوة. كيف إذن.. كان تعامله معكم كضباط موالين لما تبقى من مايو ونميري؟
ــ في اليوم الأول لانقلاب هاشم العطا نحن كنا في القصر الجمهوري مشغولين بترتيبات رئاسية للزيارة في نفس اليوم إلى مدينة كوستي حيث جاء التفكير من جعفر نميري منذ وقتٍ طويل لأن تكون كوستي هي العاصمة السياسية للسودان، وفي صباح ذات اليوم حضر إلى مكتبي مدير الاستخبارات بالقصر الجمهوري وذلك من أجل إخطار جعفر نميري بأن هناك انقلاباً سيتم في الثالثة من بعد ظهر اليوم بترتيب من الحزب الشيوعي، وفي الثامنة صباحاً من نفس اليوم حضر جعفر نميري لمكتبه ونظر إلى التقرير الذي وضعته أمامه فتساءل ما هذا فذكرت له أن هناك تغييراً عسكرياً شيوعياً سيتم اليوم، لم يعبأ جعفر نميري بهذه المعلومات ولم يشغل نفسه بها، وقال لي نحن نعيش حالة روتينية قاتلة وعلينا أن نستمر في التجهيز لنقل العاصمة السياسية إلى كوستي.
** بعد أن أصبح الأمر واقعاً ماذا فعلتم والانقلابيين قد مضوا في خطواتهم باعتقال نميري وآخرين وتسلموا السلطة كاملة؟
ــ لإحباط هذا الانقلاب بدأنا اتصالاتنا وتحركاتنا والتي مرتكزها كان هو كافتيريا القيادة العامة وللحقيقة والتاريخ كان من الممكن أن ننهي الانقلاب في ساعاته الأولى، ولكن فضلنا التريث ليومين أو ثلاثة حقناً للدماء، فمواجهة حركة 19 يوليو لم تكلفنا كثيراً لأن منطلقنا كان هو التقليل من الخسائر والدماء مع المحافظة على حياة جعفر نميري وكان هذا هو همنا وحرصنا الشديد، وللحقيقة والتاريخ، أقول أيضاً إن كثيراً من أفراد القوات المسلحة المعنيين بحراسة القصر الجمهوري ما كانوا يعلمون بانقلاب هاشم العطا على الرغم من صدور التعليمات لهم من الانقلابيين بحالة الاستعداد والدفاع عن القصر، وهذا ما ساعدنا كثيراً في تأمين جعفر نميري.
** مذبحة بيت الضيافة شكلت صدمة للمايويين وجعفر نميري لأنها لم تكن تخلو من عملية المباغتة والخيانة، وهي من حيث الفاجعة شبيهة لحدٍ ما بمذبحة فض اعتصام القيادة العامة مؤخراً. فكيف كانت تلك الحادثة؟
ــ عندما زرنا بيت الضيافة وجدت من الأحياء شخصاً واحداً فقط هو الذي شرح لنا حقيقة ما حدث وهو ابن دفعتي وصديق ولقد أعطاني هذا الضابط أهم معلومة عندما قال لي إن ضابطاً يدعى أحمد جبارة هو الذي نفذ المذبحة الشنيعة، وبعد أن قمنا بإسعاف الضابط الذي حكى لنا حقيقة ما جرى فارق الحياة هو الآخر بمجرد وصوله لمستشفى السلاح الطبي.
** 19 يوليو هل كانت إشارات خاطئة من الاتحاد السوفيتي وقتها وتلغفتها بعض العناصر، أم كانت الحركة ليست ذات بُعد دولي وإقليمي؟
ــ بالتأكيد حركة 19 يوليو الانقلابية كان لها بُعد دولي وإقليمي. وما يؤكد على هذا البُعد هو وجود هاشم العطا خارج السودان لفترة ليست بالقصيرة فهو كان عائداً لتوه من الخارج ليقود الانقلاب، وأصلاً بالنسبة للاتحاد السوفيتي كان الرئيس نميري يكرر التحذير تلو التحذير لبعض أعضاء مجلس قيادة الثورة وقتها والذين كانوا على مداومة واتصال في تسريب المعلومات للسفارة السوفيتية وقتها، فكان نميري دائم التحذير والنقاش مع هؤلاء الأعضاء إلى أن ضاق بهم ذرعاً وتم فصلهم من مجلس قيادة الثورة ومن القوات المسلحة، ولذلك يمكننا القول إن 19 يوليو هي حركة تم التخطيط لها وطباختها بالخارج.
** إذا أخذنا التجربة اليسارية التي أتت بمايو 1969م (جعفر نميري) والتجربة الإسلامية التي جاءت بالإنقاذ 1989م (عمر البشير) فكثيرون يقولون إن العلاقة بين الايدولوجيا والسياسيين والعسكر في الإتيان بالانقلابات، هي دائماً تظل علاقة هشة مباراة وتمرين صعب وغير موفق فماذا تقول؟
ــ القوات المسلحة إطلاقاً هي لا تتحرك لأية جهة سياسية، ولكن التحرك يكون عندما يشعر العسكريون بأن السياسيين قد وصلوا إلى طريق مسدود وخرجوا من الخط، ونحن من واجبنا حماية الأرض والإنسان. فالقوات المسلحة ديدنها هو الانحياز للشعب في حالة رفض الحاكم أياً كان وفي حالة فشله التام، وبالرغم من أن نميري وحكمه قد ذهبا بثورة شعبية، إلا أننا نقول إن جعفر نميري كان من الحكام المخلصين لبلادهم وهو أمين وصادق وصاحب قرار ومن أهل الكفاءة وهو رفع اسم السودان عالياً والقوات المسلحة لم تكن غاضبة في يوم من الأيام من جعفر نميري.
** استقرار حكم مايو وجعفر نميري جاء بعد انقلاب السحر على الساحر أي بعد الانقضاض على اليسار الذي فجر مايو في 1969م فلماذا لم يتأتى ويتسنى للبشير الانقضاض على الإسلاميين الذين فجروا الإنقاذ؟
ــ البشير ليس كجعفر نميري. وأنا أعرفه منذ فترة بعيدة فهو مسيّر طول حياته، ولذلك لم يستطع فعل شيء ولا يملك القدرة على ذلك. عرفناه بهذه الحالة منذ أن كان برتبة ملازم ولم نعرف عنه أنه صاحب قرار، وأنا سبق أن قلت هذا قبل سقوط البشير ذلك بأنه شخص مُسيّر ولا يجرؤ على اتخاذ أي قرار وهو أردأ حاكم مر على البلاد.
** كيف تقرأ المشهد الآن؟
ــ أرى أن الأحزاب الآن هي تتكالب للالتفاف بالمرحلة، وأنا أرفض ذلك لأن غالبية هذه الأحزاب إن لم يكن كلها كانت مشاركة في فترة الثلاثة عقود الماضية، فنحن لا نريد الوجوه المتكررة القديمة، بل الشباب والكفاءات هم ما يحتاجه السودان، فالأحزاب هي شريكة في التدهور الذي حدث للسودان والذين فيها هم منافقين.
** ما هو رأيك في الصادق المهدي؟
ــ هذا الشخص لا يصلح أبداً في أن يظهر على المشهد السياسي لأنه هو سبب في الكثير مما نحن عليه الآن مع تقديرنا لموقعه الأسري وتأثيره فيه، وأنا أذكر أنه حينما تم اعتقال الصادق المهدي في الساعات الأولى لمايو، قال لي الرئيس جعفر نميري وقتها إن جهاز الأمن قد اعتقل الصادق المهدي ووقتها أنا كنت مديراً لمكتب جعفر نميري، فطلب مني أن أقود عملية مشروع تأمين اعتقال الصادق وذكر لي جعفر نميري أنه خصني بهذه المهمة للمحافظة على حياة هذا المعتقل، وبالفعل ذهبت إلى جبيت وهيأت إليه موقعاً يليق به من حيث الإقامة بديلاً للموقع الذي وجدته فيه وتمت استضافته في منزل القائد هناك، ومن كل الحديث الذي ذكرته أقول إن الصادق المهدي وبعد هذه السنوات عليه أن يلزم منزله.
** الاعتصام الجماهيري أمام القيادة العامة والذي أزاح البشير هل شاركت فيه؟
ــ نعم.. ذهبت إلى هناك في ملحمة أراها من أعظم ملامح الشعب السوداني. والموجودون هناك كانوا عبارة عن بيت سوداني كبير، فكلنا شاركنا في هذه الثورة الشعبية.
** الآن.. هناك دعم للثورة من محور إقليمي بعينه هو السعودية ــ الإمارات ــ مصر وهذا هو ذات المحور والفلك الذي كانت تدور فيه ثورة مايو وجعفر نميري. فهل يمكننا القول إنه ما أشبه اليوم بالبارحة؟
ــ الآن.. أرى أن هناك اختلافاً هنا. وصحيح كانت علاقاتنا مع هذه الدول بصورة طيبة وكانت علاقة مايو (السودان) مع كل الدول نظيفة وقوية، وأنا أقول ذلك من واقع مسؤوليتي عن أعلى مكتب بالدولة كنت أديره، أما الآن الموقف العالمي اليوم ليس هو كموقف الأمس، فالآن المتغيرات في العالم هي كثيرة وخطيرة ومتسارعة جعلت المصالح والأجندة السياسية تعلو على الكثير ويسود منطق العلاقات.
** الفترة الانتقالية القادمة بما تنصح أن تكون؟
ــ أنا غير متفائل بما هو قادم، وأرى أن الاتفاق بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري، سيفشل وأنصح بأن يتولى الشباب زمام المرحلة القادمة مع تقديم الكفاءات.
** أين ذهب المايويون؟
ــ المايويون باعوا أنفسهم للحكم السابق بالرخيص.
** يقولون إن السياسة في السودان تأثرت سلبياً بفعل الصراع المحموم تاريخياً بين قوى اليسار وقوى الإسلام السياسي. كيف تنظر لهذا القول؟
ــ هؤلاء هم كفوة هذه البلاد وأهل اليسار والإسلام السياسي هم مرفوضين تماماً وبالذات أهل الإسلام السياسي الذين قدموا تجربة تتحدث عن نفسها عندما ننظر لمآلات ما وصلت إليه البلاد.