* كثيرا ما يصادف الانسان فى حياته مواقف لا يريد لآخرين أن يعرفوها، مهما كانوا قريبين منه أو تربطهم به علاقة وثيقة جدا، كزوجته أو ولده أو بنته أو أخيه، أو حتى هو نفسه !!
* قد يطلب منك احد خدمة فتؤديها بحسن نية شديدة، ثم تكتشف لاحقا انه لا يستحق تجاوبك أو حسن نيتك معه .. لسبب أو لآخر، وربما يظن بك السوء أو يضرك، أو قد يحسن بك الظن ولكنه ينظر الى استجابتك من زاوية مختلفة غير الزاوية التى نظرت بها إلى طلبه، وهو شئ طبيعى، فالله خلق البشر مختلفين فى افكارهم، فى مشاعرهم، فى عواطفهم، فى أحاسيسهم، فى ألوانهم، فى أشكالهم وحتى فى )تكوينهم الجوانى( الذى لا يستطيع احد ان يسبر غوره او يتعرف عليه سوى الخالق الذى خلقه، وقدّر له ان يولد وينمو ويتطور ويتحور ويتشكل ويتغير، بدون ان يروادك ادنى شعور، مهما كنت صاحب مهارات وخبرات فريدة، بأنه يختلف عن تكوينك او نظرتك إليه !!
* وقد تطلب من احد خدمة، أو تعبّر له عن إحساس، فينظر الى طلبك أو إحساسك بنظرة مختلفة تماما عن نظرتك وانت لا تدرى !!
* جاء ذات يوم الى مكتبى بالجامعة صديق واخ كريم وشرح لى ظرف شقيقته، وطلب منى أن أساعدها فى الإلتحاق بالدراسة بإحدى الكليات بجامعة الخرطوم، وكانت الجامعة قد رفضت قبولها، رغم تفوقها، بسبب ظروفها الصحية )كفيفة ومقعدة (، فتحمستُ لها، وكتبت عدة مذكرات ومقالات بالصحف انتقدتُ فيها الجامعة على موقفها غير الانسانى السلبى تجاهها، وذهبت الى أكثر من ذلك بالاتصال المباشر بصديقى مدير الجامعة لتيسيير إلتحاقها بالجامعة، وحدثته عن تفوقها ومقدراتها، ولم يخذلنى الزميل الجليل، وأمر بقبولها، فقُبلت وحصلت على البكالريوس ثم الماجستير، ثم إلتحقت بسلك التدريس فى احدى الجامعات المرموقة، ولقد أوشكتْ الآن على اكمال دراسة الدكتوراة باحدى الجامعات السودانية !!
* ولقد كنت سعيدا، أيما سعادة، بنجاحها وقهرها للظروف الصعبة التى تعيشها، إلا اننى شقيت، أيما شقاء، بمعرفتى بها، لاعتقادها الخاطئ ان مؤازرتى المستمرة لها نابعة من مشاعر محبة، وقد تكون كذلك، ولكن ليس بالطريقة التى فهمتها، وحاولتُ كثيرا ان اشرح لها، ولكنها ظلت تتمسك بعلاقة واهية، رغم انها تعلم حقيقة مشاعرى وأن لى حياتى الخاصة واسرتى، وحاولت ان ابتعد، وابتعدت بالفعل، وتحدثت مع شقيقها وتفهم موقفى، الى ان فاجأنى ذات يوم بالحضور الى منزلى وحدثنى عن محاولة شقيقته الانتحار وإصابتها باكتئاب نفسى حاد، ولقد فهم ان ذلك بسبب ابتعادى واغلاق هواتفى، والتمس منى معاودة الاتصال بها من فترة لاخرى، وفعلت وتحسنت حالتها، وكنت كلما انقطعتُ تعاودها حالة الاكتئاب فظللت امارس معها دور الطبيب وانا مشفق عليها وكاره لنفسى .. وكنت احيانا اتظاهر بمجاراتها، مراعاة لمشاعرها وظرفها الخاص، عزائى ودافعى انها كانت تسر بذلك، رغم علمها الأكيد أنها مجاراة جوفاء لا تعنى لى شيئا!!
* ولكن .. لكل اول آخر، ولكل بداية نهاية، فلقد سمعت ابنتى بالصدفة طرفا من مكالمة هاتفية بينى وبينها، أساءت فهمها، ولم أعلم بذلك لأنها انسحبت فى هدوء بدون أن أحس بها، ولكننى لاحظت دخولها فى موجة حزن حادة وطويلة، وظللت اطاردها بالاسئلة حتى صارحتنى بسماعها لجزء من تلك المكالمة، ولم ادر ماذا افعل وكيف أشرح موقفى، وانسحبتُ الى غرفتى وجلست اكتب هذه الحكاية علّها تخفف عنى، وتشرح معاناتى وتضمد جراح من جرحتْهم!!