-1-
للأسف، يبدو هناك متّسع من الوقت قبل الوصول إلى اتفاق سياسي نهائي ينقل البلاد لفترة انتقالية، تُمهِّد للتحوُّل الأكبر.
التحوُّل الأكبر هو ما يُحقِّق شعارات التغيير (حرية، سلام وعدالة)، ويُؤسِّس لتداول سلمي للسلطة، عبر صناديق الاقتراع، لا صناديق الذخيرة.
بعد اجتماع الـ12 ساعة بفندق كورنثيا، من الغسق حتى أنفاس الصباح، تمَّ التوقيع على اتفاق سياسي تبلَّل بدموع الوسيط الإثيوبي دكتور محمود درير، وكانت الجمعة الميقات المُحدَّد لتوقيع إعلان الفرح الدستوري.
قبل ميقات الجمعة، تمَّ تأجيل الاجتماع المُعلن سلفا، وسافرَتْ وفودٌ من الحرية والتغيير لأديس أبابا، لاحتواء موقف الجبهة الثورية الرافض لاتفاق كورنثيا.
-2-
ما بين مُفاوضات فندق كورنثيا بالخرطوم، ومُفاوضات فندق ريدسون بأديس أبابا، أصبحت للوسطاء مُهمَّة مُركَّبة ومُعقَّدة:
الأولى/ حل خلافات قوى الحرية والتغيير في ما بينها، المكونات المدنية والعسكرية، أحزاب الكتلة وحركات العمل المُسلَّح.
الثانية/ وهي المبتدأ والأساس، بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري، الواقف على خط الانتظار.
في هذه المعادلة المُتعدِّدة الأطراف والمسارات، تُصبح هناك ثلاث احتمالات:
الاحتمال الأول/ يتم الاتفاق بين مكونات قوى الحرية والتغيير (العسكرية والمدنية)، ومن ثم تذهب الكتلة بموقف موحد لإكمال التفاوض مع المجلس العسكري من نقطة الانتهاء السابقة، أو بإضافة مُلحق جديد.
الاحتمال الثاني/ يتم الاتفاق داخل الكتلة على إعادة التفاوض مع المجلس العسكري إلى نقطة الصفر.
الاحتمال الثالث/ يتعذّر أو يتعسّر الاتفاق داخل كتلة الحرية والتغيير بين المكونين المدني والعسكري، فيترتَّب على ذلك فكُّ الارتباط بينهما.
-3-
حتى ولو تم الاتفاق بأية صورة من الصور السابق ذكرها أو بغيرها، ذلك لا يعني انتهاء الأزمة وحلَّ المعضلة، فأهمُّ طرفين في محاور العمل العسكري، سيكونان خارج ترتيبات الفترة القادمة:
الحركة الشعبية جناح عبد العزيز الحلو، تُعتَبر أكبر حركة مُسلّحة بين كُلِّ الحركات، وتُسيطر على مناطق واسعة في جبال النوبة.
حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، تُعتبر أكبر حركة مُسلَّحة ذات نفوذ جماهيري في دارفور، وخاصة في مُعسكرات النازحين؟!
هناك طرفٌ ثالثٌ ليس من المستبعد أن يعود مرَّة أُخرى لساحة الحرب، ممثلاً في الحركات المسلحة في الغرب والشرق، التي كانت جزءاً من الحكومة السابقة إلى لحظة السقوط، وتم عزلها سياسيّاً من المُشاركة في ترتيبات الانتقال!
-4-
هناك غموض – لا أعرف إن كان قصداً أم عرضاً – في نقطة منح ستة أشهر من الفترة الانتقالية لقضية السلام وإنهاء الحرب.
في هذه الفترة المُحدَّدة بستة أشهر، هل ستكون الحركات المسلحة خاصة الجبهة الثورية – وهي جزء من مكونات قوى الحرية والتغيير – خارج أجهزة الحكم الانتقالي، أم داخلها؟
إذا كانت خارج الأجهزة الحاكمة ستجد نفسها معزولة عن تشكيل خارطة المستقبل، فربما يتحقق السلام أو لا يتحقق خلال الستة أشهر!
وإذا أصبحت جزءاً من أجهزة الحكم في مجلس السيادة والمجلس التشريعي؛ فما جدوى التفاوض معها بعد ستة أشهر، وهي شريك في الحكم وأجهزة اتخاذ القرار، تأمر وتَنهى، تأكل وتشرب؟!
-5-
السؤال المُهم: هل كانت الحركات تحمل السلاح ضدَّ الحكومة أم ضد الدولة؟!!
في كُلِّ أدبيَّاتها المعروفة والمنشورة، كانت الحركات تستهدف نظام حكم البشير.
رغم سقوط النظام السابق، وانتفاء أسباب حمل السلاح بعد انتصار الوسائل السلمية، هل ستظل أوضاع الحرب والسلام في ذات المُربّع القديم؟!!
في المُربّع القديم يتمُّ تحقيق المكاسب السياسية والوظيفية، عبر رفع السلاح ولُغة المُحاصصة.
للأسف، كُلُّ المؤشرات تؤكد أن الوضع سيستمرُّ على ما كان عليه، فلن تُلقي الحركات السلاح، ما لم تُحقِّق مكاسب كبيرة لمناطقها ولشخوص قياداتها.
كان الوضع الطبيعي مع سقوط النظام الذي في مُواجهته رفعت الحركات السلاح، أن تُسرع لإنهاء طبيعتها العسكرية، والانخراط في العمل السياسي السلمي.
فأهمُّ درسٍ قدَّمته ثورة ديسمبر: في الإمكان الحصول على أغلى وأثمن الحقوق عبر العمل السياسي السلمي، وأن العمل المُسلَّح المُعارِض، كان من أهمِّ أسباب تطويل عمر النظام لثلاثين عاماً.
-أخيراً-
الحركات المُسلَّحة، وهي في كامل طبيعتها العسكرية، تضع سلاحها تحت طاولات التفاوض، بقاعات فندق ريدسون، ذلك يعني استدامة ثقافة العمل المُسلَّح في السياسة السودانية، وسيجعل الانتقال لحكم مدني كامل الأركان، حلماً غير قابل للتحقُّق.