دخل رئيس المجلس السيادي الفريق عبد الفتاح البرهان في مساحة أكثر اتساعاً ووضوحاً في علاقته بنظام المخلوع، والتي تختلف عن ماقبل، فالبرهان كان يتعامل مع القيادات الكيزانية، بعيداً عن الأضواء وكان كل ما ( تطلبه الفلول ) يتم من خلال الاجتماعات غير الرسمية والجلسات الاجتماعية والزيارات الخاصة لرئيس المجلس السيادي، لمناقشة الامور مابعد قيام ثورة ديسمبر، المتمثلة في مستقبلهم السياسي ومحاكمة قياداتهم ومصادرة أملاكهم، وعدم ازالة تمكينهم في المؤسسات.
وكان رئيس مجلس السيادة يوفر لهم كل سبل الحماية بعرقلة الأجهزة العدلية والجهاز القضائي، والتلكؤ في اصدار القرارت، والحفاظ على عناصرهم في الاجهزة الأمنية والشرطية، حتى لجنة التفكيك التي قامت بمصادرة أموالهم وممتلكاتهم، أفصح البرهان عن مشاعره العدائية لها، وأصبح بذلك الشخص الوفي لهم طيلة العامين السابقين من عمر الفترة الانتقالية. وحرص البرهان أن لا يستعين بهم في المواقع المهمة والحساسة، وظل يكرر في كل مقابلاته وخطاباته أن لا مجال لعودة النظام المخلوع من جديد، ولكن وبعد الاعلان السياسي، انتقل البرهان من منطقة التعامل في الخفاء الى العلن، وكشف نيته القديمة انه لا يعمل من أجل الثورة إن كان في زمن سابق او في مستقبل قادم كما يدعي.
فالرجل أقدم على اعادة وجوه ليست كيزانية وحسب ، بل أمنية تعكس أسوأ الصور لحكم المخلوع (جهاز أمن البشير)، لكن كل يوم يثبت البرهان انه يجرب قتل نفسه سياسياً ولم توفقه الظروف، فكيف له ان يتخذ هذه القرارات الانتكاسية، إن لم يكن هناك دافع أقوى مما تبدو عليه الامور، فلايمكن أن يتخذ البرهان هذه الخطوة، والشارع يلتهب، والشكوك تحوم حول اتفاقه السياسي مع حمدوك والبحث عن ماهية نية التوقيع عليه ، والعالم أجمع يراقب البرهان ومجلسه العسكري ويلوح له بفرض العقوبات، والرجل يعيش الآن مرحلة مابعد فشل الانقلاب الذي قصم ظهر الأمل والعشم في حكم السودان عسكرياً، ومع هذا كله علمه أن عودة الكيزان للمشهد السياسي يرفضها الشارع السوداني والمجتمع الدولي وحتى دول المحور التي تسانده، رغم ذلك وفي ظل كل هذه المخاطر التي تحيط به يقدم على هذه الخطوة، لذلك إن الدافع الأقوى قد يرجع لسببين، الأول إنه وبعد الاتفاق السياسي والشعب يتابع مليونية ٢٥ نوفمبر لتسهل له قراءة المشهد بموضوع هيأت الجهات الأمنية والعسكرية والشرطية جميع الاسباب لنجاح المليونية فربما ان العسكر كان يريد الشارع ان يطالب باسقاط حمدوك ليتعلل للمجتمع الدولي بأن الشارع رفض حمدوك بالتالي يمزق البرهان الاتفاق السياسي مع حمدوك كما فعل بالوثيقة الدستورية ويقوم بتعيين رئيس وزراء على شاكلة برطم والمدنيين في المجلس السيادي. لكن عندما تحفظت لجان المقاومة والشارع الثوري عن المطالبة باسقاط حمدوك وماتت احلام وردية عند العساكر، اتجه البرهان بعد فشل سلاح الشارع الى سلاح آخر وهو سلاح التخوين والتشكيك في خطوة رئيس مجلس الوزراء المتعلقة بالتوقيع على الاتفاق السياسي وتعزيز ذلك بقراءات وتصريحات، وقسمت المهام الى جزئين، الاول هو أسلوب التصريح الذي يشكك في رئيس مجلس الوزراء وهذه المهمة قام بها حميدتي في ظهور اعلامي مكثف حد الإزعاج ، وجاءت التصريحات على شاكلة (حمدوك وافق معنا على حل الحكومة، حمدوك هو من طلب الذهاب الى بيت الضيافة برغبة منه، حمدوك لايستطيع ان يعطيني أوامر) وهذه كلها لإضعاف الثقة عند مؤيدي الاتفاق السياسي ناهيك عن تأثيرها على لسان معارضيه.
المهمة الثانية هي مهمة إصدار القرارات السلبية الانتكاسية التي ترجح أن الاتفاق جاء لشرعنة وامتداد الانقلاب وهذه تتلخص في تعيين شخصيات كيزانية أمنية معروفة ومرفوضة من الشارع السوداني وثورته. إن هذا لم يكن الدافع الحقيقي لقرارات البرهان واجهاره بالفعل الذي يبرهن أنه يخدم الفلول يعمل لإعادتهم للمشهد من جديد عبر اخطر المناصب الحساسة والمؤثرة باعتبارها مفاصل الدولة والتي ربما تمهد لانقلاب إسلامي قادم ان كان هذا ليس السبب، فإن السبب الثاني هو إن الدولة الآن تحكمها سلطة ثالثة تتحكم في القرار السياسي الذي تريد به السيطرة على المناصب المؤثرة، هذه المهمة لن يقوم بها الى شخصيات كبيرة كان لها ثقل ووزن في عهد المخلوع، فهل ثمة (مكتب سياسي) يباشر أعماله الآن ويؤثر على قرارات المجلس السيادي ، مستغلاً للضوضاء في المشهد السياسي ومغالطات الأحزاب وانقسامهم في دعمهم ورفضهم للاتفاق السياسي، ويغض الطرف عن ما يدور في الشارع الثوري ترتيبه وانشغاله بإعداد جداول التصعيد وإعلانه لتحديد تاريخ للمواكب، هل هناك اجتماعات تلتئم وتنفض بعيداً عن ذلك الحراك السياسي الذي يدور في الضوء..؟
إن كان هذا مايحدث اذاً اننا نواجه خطراً أكبر من ادانة البرهان الذي أقدم على الانقلاب، هذا الخطر تحديداً يكمن في ماهو القادم بعد الانقلاب ؟! طيف أخير:
كل السيناريوهات لن تكون لها قيمة لطالما ان هناك شارع بهذه القوة والحماس بيده القرار.