* للمرة الأولى ومنذ وقت طويل تحظى كلمة رئيس الوزراء التي وجهها للشعب أول أمس بقبول وترحيب واسع من الجماهير رغم الغضب الذي يسيطر على الغالبية بسبب رفع أسعار الوقود في الايام الماضية وما سيترتب عنه من زيادة حجم المعاناة وإضافة المزيد من الاعباء الضخمة التي لن يفلح برنامج المعونات المالية المباشرة للفئات الضعيفة (ثمرات) وبرنامج (سلعتي) لتوزيع المواد التموينية اللذين تحدث عنهما رئيس الوزراء في تخفيفها بسبب الفجوة الهائلة بين الدخول والاسعار التي ترتفع كل يوم، خاصة مع تعثرهما وعدم اكتمالهما حتى اليوم، وبالتالي فإن التعويل عليهما في تخفيف الضائقة المعيشية مع زيادة حدة التضخم والانخفاض المستمر في قيمة الجنيه، ليس سوى ضرباً من الأوهام!
* غير أن حديث الدكتور (حمدوك) يبدو في شكله مقبولاً ومقنعاً، وقد تكون هى المرة الاولى التي يتحدث فيها بوضوح وصراحة في موضوعات كانت عبارة عن اسئلة حائرة في أذهان المواطنين، مثل نوع البرنامج الذي ستتبناه الحكومة لإعادة البناء بعد الخراب الهائل الذي أحدثه النظام البائد واصلاح الاقتصاد، وهما عمليتان معقدتان تحتاجان الى أموال ضخمة وخطط محكمة وصرامة في التنفيذ ووقت طويل !
* تحدث رئيس الوزراء عن تحقيق الاستقرار السياسي المنشود والاصلاح الاقتصادي عبر إكمال عملية السلام وإعادة هيكلة الاقتصاد باتباع سياسة التحرير الاقتصادي الكامل والتعاون مع المؤسسات الدولية للتخلص من بعض الديون وجدولة البعض الآخر والحصول على قروض لتنفيذ بعض المشروعات في مجالات النقل والطرق والكهرباء ومياه الشرب ودعم الانتاج وقيام الصناعات التحويلية في مجالي الزراعة والثروة الحيوانية، وهى مشروعات تحتاج الى أموال ضخمة ووقت وجهد، و الصبر على العناء المرتقب والمشاركة الايجابية من الجميع!
* الاوطان لا تبنيها يد واحدة، ولا حكومة بمعزل عن شعبها أو جيشها، كما قال الدكتور حمدوك، ولا تُبنى في يوم أو سنة أو عشر سنوات، خاصة إذا كانت مثل السودان الذي تم تدميره بالكامل في العهد البائد، ونهُبت ثرواته ولا تزال تنهب وتحتكر، سواء بواسطة الطفيلين أو انصار النظام البائد الذين ما زالوا يتحكمون في بعض مفاصل الدولة وهو وضع لا بد ان يتم التعامل معه بكل حزم وجدية، او بواسطة المنظومة العسكرية المشاركة في السلطة والتي لا بد أن تتفهم الوضع وتتنازل عن ما بيدها من شركات وأموال لتديرها وزارة المالية وتذهب إيراداتها الى الميزانية العامة، بما في ذلك شركات الدعم السريع والمخابرات والشرطة ..إلخ، وعلى الحكومة أن تكون واضحة معها في هذا الشأن بدلاً عن السكوت بمبرر المحافظة على الشراكة او ممارسة بعض المسرحيات المكشوفة مثل الزيارة الحكومية لشركات المؤسسة العسكرية ومقترح تحويلها الى شركات مساهمة عامة لإلهاء الشعب، او التمهيد لاحتكارها بواسطة الطفيلين وحرمان الشعب منها. إذا كنا جادين في عملية الاصلاح الاقتصادي، لا بد أن يشمل الجميع ولا يكون عبئاً على الشعب وحده دون قطاعات الدولة الأخرى التي تحتكر الثروات لقادتها أو لنفسها وتأخذ في الوقت نفسه مرتباتها وامتيازاتها من الميزانية العامة للدولة!
* ولا بد من توحيد كل الجيوش في جيش واحد قوي وهو مطلب عسكري وشعبي مشترك، كما انه من أهم عناصر استكمال عملية السلام وتحقيق الاستقرار السياسي المطلوب، بالإضافة الى تشكيل الجهاز التشريعي والمحكمة الدستورية بأسرع ما يمكن، واختيار الاعضاء بحيدة ونزاهة بدلاً عن نظام المحاصصة والشللية الذي أفسد الحكم وألب الشعب على الحاكمين وأخر تنفيذ مهام الفترة الانتقالية، وهنا لا بد من الحديث عن قضيتين خضعتا ولا تزالان للمناورات والالاعيب المكشوفة، هما تسليم المتهمين في جرائم دارفور الى المحكمة الجنائية الدولية، وجريمة فض الاعتصام. لقد حان الوقت لحسم كل هذه القضايا بأسرع واعدل ما يمكن، وإلا فإن الاستقرار المنشود لن يكون سوى حلماً بعيد المنال !
* كما ان أحد أكثر العوامل أهمية هو تفعيل الاعلام الخامل الناشز، والالتصاق بقضايا الجماهير وتمليكهم الحقائق مَهما كانت قاسية، ورفع درجة الوعي، بدلاً عن القضايا الانصرافية والدلوكة المدورة اربعة وعشرين ساعة داخل الاستديوهات، ويكفي للتدليل على اهمية الاعلام المباشر والالتصاق بالناس، الأثر الإيجابي الذي أحدثته كلمة رئيس الوزراء أول أمس في قطاعات واسعة من الشعب واحساسهم بالتفاؤل لأول مرة منذ وقت طويل، وما ذلك إلا لأنهم فهموا بعض ما كان خافياً عنهم وأحسوا بأهميتهم، وانهم ليسوا مجرد قطيع !