مع بدء العام الدراسي قبل نحو اسبوعين متزامناً مع الغلاء الفاحش الذي ضرب حتى الرسوم الدراسية بالمدارس الخاصة، لم يجد جارنا في السكن خياراً غير أن ينقل ابنائه من المدرسة الخاصة التي كانوا يدرسون فيها إلى إحدى المدارس الحكومية، لعدم قدرته على تحمل المزيد من الاعباء المالية في ظل الأوضاع المعيشية الضاغطة، وعندما جاءني يشكو تألمه من هذه الخطوة التي أقدم عليها، شاركته ألمه وواسيته بأنني أيضاً لا خيار لي سوى أن أفعل ما فعله، وبالفعل نقلت ابني من مدرسته الخاصة الى احدى المدارس الحكومية، بينما ابقيت على البنت في مدرستها الخاصة، وعندما سألتني أمها باستغراب واشفاق من أين سأدبر مصاريفها العالية مقارنة بحالي الذي يغني عن السؤال، قلت لها البنات حساسات ولن اتسبب لها في أي عقدة (واليحصل يحصل سجن سجن غرامة غرامة)..والواقع انني وجاري لسنا الوحيدين الذين اضطروا مرغمين لتحويل ابنائهم من المدارس الخاصة الى الحكومية، لا لأن المدارس الحكومية صارت جاذبة وأكثر تأهيلاً من الخاصة، وانما فقط بسبب الاوضاع الاقتصادية الصعبة وتآكل الدخول، فهناك آلاف من الذين اتخذوا قرار نقل أبنائهم وبناتهم الى المدارس الحكومية لذات السبب، اذ تحالف عليهم الارتفاع المهول لرسوم المدارس مع غلاء المعيشة المتفاحش والمتزايد على رأس كل ساعة مع الانهيار الكبير لقيمة الجنيه، حتى لتكاد تصدق في أحوال المعيشة اليوم تلك المقولة الساخرة التي اطلقها ساخرون ذات غلاء، ان الناس مع هذا الغلاء وتدهور قيمة العملة الوطنية يحتاجون لحمل قفة مليئة بالأموال ليبتاعوا بها أشياء لا تملأ الجيب، وقد أكدت احصاءات رسمية صادرة عن وزارة التربية والتعليم بالخرطوم كثافة الهجرة العكسية من المدارس الخاصة الى الحكومية، وقدرت الوزارة في احصائية مبدئية اعداد الطلاب المهاجرين الى التعليم الحكومي بأكثر من 17 ألف طالب والعدد في الليمون كما يقال عن الشئ الذي يشهد زيادة مضطردة، وبالقطع فان هذه العودة العكسية لا تمثل حراكا ايجابيا صاعدا، لأن هجرتهم الأولى الى المدارس الخاصة كانت بسبب التدني المريع الذي أصاب التعليم الحكومي وأقعد به، ولم يعودوا له اليوم بسبب تميزه وانما فقط لعدم قدرة أولياء الأمور على تحمل التكاليف العالية في المدارس الخاصة، وطالما أتينا على ذكر الغلاء والمشقة التي تجدها الأسر لاستمرار ابنائها في التعليم الخاص، فلن نغادر هذه المحطة الا بالتذكير ﺑﺄﺳﻌﺎﺭ ﺍﻟﺴﻠﻊ ﻭﺍﻟﻤﻮﺍﺩ ﺍﻟﻐﺬﺍﺋﻴﺔ ﻭﺍﻟﺨﺪﻣﺎﺕ ﺍﻟﻄﺒﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻴﺔ ﺍﻟتي تفاقمت الى ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺴﺘﻮﻯ ﺍﻟﻼﻣﻌﻘﻮﻝ، ﻭﺍﻟﺬﻱ ﺳﺠﻠﺖ ﻓﻴﻪ ﺑﻼﺩﻧﺎ ﺩﺭﺟﺔ ﻣﺘﻘﺪﻣﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻐﻼﺀ، ﻭﻟﻴﺴﺖ ﺍﻟﻤﺸﻜﻠﺔ ﻓﻘﻂ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻐﻼﺀ ﺍﻟﻤﺘﻔﺎﺣﺶ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﺍﻟﻤﺸﻜﻠﺔ ﺃﻳﻀﺎ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺒﺮﻭﺩ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﻘﺎﺑﻞ ﺑﻪ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﺕ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﻭﺿﺎﻉ ﺍﻟﺴﺎﺧﻨﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻜﺘﻮﻱ ﺑﻨﺎﺭﻫﺎ ﺍﻟﻤﺴﺘﻬﻠﻜﻮﻥ ﻭﺧﺎﺻﺔ ﻣﺤﺪﻭﺩﻱ ﺍﻟﺪﺧﻞ ﻭﺍﻟﻔﻘﺮﺍﺀ ﻣﻨﻬﻢ، ﺣﻴﺚ ﻟﻢ ﻳﺒﺪﺭ ﻣﻦ ﺃﻱ ﻣﺴﺘﻮﻯ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ ﺣﺘﻰ ﺍﻵﻥ ﺃﻱ ﺗﺪﺑﻴﺮ ﻋﻤﻠﻲ ﺫﻱ ﻓﻌﺎﻟﻴﺔ ﻭﺣﻀﻮﺭ ﻟﻠﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ ﻫﺬﺍ ﺍﻻﻧﻔﻼﺕ ﺍﻟﺬﻱ ﺍﺟﺘﺎﺡ ﺍﻷﺳﻮﺍﻕ، ﻭﺍﻧﻤﺎ ﻟﻠﺤﺴﺮﺓ، ﺇﻣﺎ ﺃﻥ ﺗﺴﻤﻊ ﻣﻨﻬﻢ ﺁﻫﺎﺕ ﻭﺗﺤﺴﺮﺍﺕ ﻳﻄﻠﻘﻮﻧﻬﺎ ﻣﺜﻠﻲ ﻣﺜﻠﻚ، ﺃﻭ ﺍﻧﺘﻘﺎﺩﺍﺕ ﻻ ﺗﺪﺭﻱ ﻟﻤﻦ ﻳﻮﺟﻬﻮﻧﻬﺎ، ﻷﻧﻔﺴﻬﻢ ﺃﻡ ﻷﻫﻞ ﺳﻠﻄﺔ ﺁﺧﺮﻳﻦ غيرهم.. و…(لا ثمرات نفع ولا البيع المخفض شفع)..