استوقفني ما جاء في الاخبار حول شروع حكومة ولاية الخرطوم في تأهيل واجهة مطار الخرطوم الدولي والبيئة المحيطة به،اذ بدا لي هذا الخبر أشترا مثل الرجل الذي يرتدي عراقي بلدي وسروال طويل ويزين عنقه بكرافتة أنيقة وجميلة، فحتى لو نجحت الولاية في تأهيل الواجهة وتزيينها، ستنطبق على المطار مقولة (من برة هلا هلا ومن جوة يعلم الله)، التي تطلق على الشئ الذي يبدو ظاهريا أنيقا وجذابا بينما يحتشد داخله بالقبح والخراب والعذاب، فمشكلة المطار المزمنة بداخله أكثر مما هي خارجه، وقد تأكد لي من خلال زيارتي للمطار في الأيام القليلة الماضية لاستقبال قريب لي عائد من الخارج، أن لا جديد في المطار يذكر بل قديم يعاد، ومن القديم الذي استرجعته ذاكرتي الحكاية أدناه..
(لايوجد ماء بالحمامات..اذن أين الأباريق..ألا توجد أباريق)..هكذا ظل رجل أفريقي مسلم متوسط العمر يتزيا بالزي الشعبي المعروف بغرب أفريقيا، يقذف بهذه العبارات العربية الفصحى في وجه العامل المسؤول عن نظافة حمامات صالة المغادرة بمطار الخرطوم..العامل الذي كان يجلس متقرفصا على كرسي متهالك ويشاطر (مواسير) الحمام الشخير، رفع رأسا مثقلا بالنوم وبمكابدة واضحة تمكن من فتح احدى عينيه نصف فتحة ونظر للرجل نظرة من يستغرب على من يحتج على وضع يظنه معروف بالضرورة ومعتاد ولا يستحق الاحتجاج عليه، وقال للرجل ببرود ولا مبالاة ولسان ثقيل (أباريق مافي) ثم عاد لوضعه السابق وكأن شيئا لم يكن، الساعة وقتها كانت قد قاربت الرابعة صباحا ويبدو أن ذاك الأفريقي المسلم كان يود أن (يقطع الجمار) ليكون على طهارة قبل أن يلج الطائرة التي لم يبق على موعد اقلاعها الا القليل، فأضطر والحال هذا أن يصبح سودانيا مثلي ويفعل ما فعلت أنا دون احتجاج أعرف بسودانيتي عدم جدواه..ذهب الرجل الى الكافتيريا وهو يطنطن بلغة بلده وظني أنه كان يلعن أبوخاش المطار وربما البلد بمن فيها وما فيها واليوم الأسود الذي جاء به اليها، وابتاع قارورة مياه وعاد وهو يطنطن ويرطن ودخل الحمام وهو على هذا الحال الغاضب..ازاء هذا المشهد التراجيكوميدي لم أدر هل أضحك أم ابكي، ولكن المؤكد أنني سخرت من ادارة المطار التي فشلت حتى في توفير الماء في واحدة من أهم واجهات البلد ومداخلها التي تكشف حالنا أمام الأغراب من عربان وأعاجم دعك من الطهارة المقررة شرعا..ما ذكرناه عاليه لا يمثل سوى عينة صغيرة من ركام البؤس والفشل الذي ضرب بأطنابه، وأقام في هذا المبنى المسمى مجازا (مطار)، لا شئ في هذا المبنى غير البؤس والبيروقراطية والتخلف والجمود والعبوس، مهما حاولت أن تجيل نظرك في نواحيه لتقف على شئ مشرق أو مفرح سيرتد اليك بصرك وهو حسير وكسيف ومكسوف ومكسور، وأينما التفت لا ترى الا ما يسد النفس، هذا في حالة المغادرة، فما بالك بحالة العودة التي تكون قبلها قد مررت مرتين بمطار احدى الدول على الأقل، ورأيت رأي العين وعايشت عمليا مستوى الأداء فيها، ستكتشف كم هو بائس وفقير ومتواضع ومثير للأعصاب وجالب للغضب ومهدر للوقت هذا الشئ المسمى (مطار الخرطوم).التدهور طال كل شئ من باحته الخارجية وحتى سلم الطائرة، وهذه والله ليست مبالغة مني أو تحاملا ولكنها الحقيقة التي يعرفها كل من قذف به قدر السفر الى هذا المبنى، وأكثر ما يحز في النفس أن بقاء حاله على البؤس والتردي الذي هو عليه حتى الآن، يشي وكأن القائمين عليه لا يدركون هذا السؤ ولا يعرفون ما بلغه من بؤس..
الجريدة
حرية، سلام، وعدالة
وغمضُ العين عن شرّ ضلالٌ *** وغضّ الطرف عن جورٍ غباءُ
فيسبوك صحيفة الجريدة السودانية – fb.me/aljareeda.sudanese.newspaper
النسخة ( الورقية ) عبر موقعنا – ( www.aljareeda-sd.net )