:: بالأمس، وفي أول ظهور له منذ الإطاحة به، اقتادت الشرطة الرئيس المخلوع من محبسه، وهو بكامل أناقته، إلى نيابة مكافحة الفساد.. فالمشهد كان احتفاليا، أي أشبه بمراسم استقبال ووداع سيادته عندما كان رئيسا يصول ويجول في البلاد حاملا عصاه ومتوسطاً حاشيته.. وقبل هذه الإطلالة الزاهية بيوم، كان النائب العام قد ذكر أن الرئيس المخلوع سوف يمثل أمام المحكمة بتهم حيازة النقد الأجنبي وغيرها من تهم الفساد المالي.
:: وعليه، إن كان ذاك المشهد الاحتفالي الأول للرئيس المخلوع (مستفزا)، كما وصف البعض، فإن الاستفزاز – في أوضح معانيه – هو أن تقدم السلطات العدلية في بلادنا قضايا الأموال على قضايا الأرواح، وأن يُظهر المسؤول الأول عن مئات الكوارث وكأنه مجرد (تاجر عُملة).. هذا محزن للغاية.. قائمة القضايا التي يجب أن يواجهها الرئيس المخلوع وكل رموز النظام، وحتى صغار النظام، مختل لحد الاستفزاز!!
:: وجرائم قتل الأنفس بغير حق يجب أن تكون مقدمة على جرائم المال العام، هذا ما لم يكن كل شيء يُصنع في بلادنا كما يشاء الحاكم والجلاد العدل وليس منطق الأشياء.. لهم الرحمة بإذن الله، كل ضحايا الإنقاذ.. وليس فقط شهداء الثورة، بل كل شهداء النظام المخلوع يجب أن يكونوا في خاطر الناس والإعلام حين تتحدث السلطات عن العدالة والمحاسبة، وذلك حتى لا تصبح العدالة (انتقائية)، بحيث تحاكمهم على حيازة النقد الأجنبي وتتجاهل أمر آلاف الشهداء!
:: فالرئيس المخلوع لم يكن رئيس شركة تجارية بحيث يكون أول ظهوره مع (تجار العملة).. وقد لا تعلم السلطات العدلية أن الانقلاب على الحكومة المنتخبة – كالذي حدث في ليلة 30 يونيو 1989 – جريمة تستدعي المساءلة والتحقيق والتحري ثم المحاسبة حتى لا تتكرر.. الانقلابات هي (أم الجرائم) التي تبدأ بها محاكم ما بعد الثورات، فكيف ولماذا غفلت السلطات العدلية هذه البداية المهمة؟.. وهناك ضحايا دارفور وكجبار وبورتسودان و ضحايا رمضان و(قبورهم المخفية) .. و.. و.. بكل ولاية رهط من الضحايا.. وسواسية أسرهم أمام أبواب العدالة بحثا عن حق القصاص!!
:: ثم في الخاطر أحداث سبتمبر، حيث كان الحدث (هناك عربات بدون لوحات كانت تضرب في الذخيرة)، الفريق أحمد إمام التهامي، رئيس لجنة التحقيق في تلك المأساة.. وقد تم تدوين البلاغ، ولا تزال الأسر تبكي دماً ودموعاً بحثاُ عن القتلة.. واليوم، فالناس ليسوا بحاجة لمعرفة إن كانت العربات التي استهدفت الثوار بلوحات أو بدونها، بل هم بحاجة لمعرفة من كانوا على ظهورها يطلقون الرصاص، ومن أمرهم بإطلاق الرصاص .. هكذا يجب أن تكون بدايات العدالة، لتطمئن قلوب الناس على نجاح ثورتهم، وحتى لا تذهب بهم الظنون بأن ذاك المشهد الأول من (مسرحية العدالة)!!