نورد اليوم بقية حديث د.عصام اليشير نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عن الغُلُوُّ والتَّطَرُّف.. حدود المفهوم وضوابطه حيث يجيب عن السؤال التالي حول الموضوع :
س : أعتقد أن المفاهيم اتضحت من هذه التعريفات، ولكن حالياً هناك تبادل للبطاقات في العالم الإسلامي: بعض الشباب تقول له دخلت في مرحلة الغلو، فيجيبك: أنتم متساهلون، أو يقول: أنا ملتزم، يعني ملتزم بالحق في مقابل من يلتزمون بالتمييع، ويقول: إنكم تميعون في الدين وتريدون لأنفسكم ديناً جديداً ولا تريدون الالتزام لأنه صعب عليكم الالتزام بالأحكام.. فكيف نضع الميزان الضابط لنقول إن هذا الفعل والسلوك بعينه فيه غلو، وهذا السلوك فيه تقصير؟
ج – الميزان أولاً مرجعيتنا في الكتاب والسنة. العقائد أمرها واضح، لأننا نتلقاها عن النبي عليه الصلاة والسلام كأركان الإيمان الستة الواردة في حديث جبريل عليه السلام، وكما بينها النبي عليه الصلاة والسلام. العبادات التي نطلق عليها شعائر التعبد أمرها أيضا ًواضح؛ كيف نصلي، كيف نحج، كيف نتعبد “صلوا كما رأيتموني أصلي”.. فإذا زدنا على صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فهذه الزيادة توقع في الغلو، فالشعائر التعبدية أمرها واضح، وفي المعاملات هناك قواعد عامة تحكم هذه المسألة، وبالتالي في الأمر سعة.
هناك قطعيات في الشريعة تسمى (المحكمات) هي التي ينبغي ألا يختلف المسلمون فيها، إن زاد الإنسان عليها وقع في الغلو. وهنالك (الظنيات) التي تحتمل أكثر من وجه للتفسير، وهي يسر منداح، والدليل على ذلك أن من أخذ بالعزيمة التي لها أصل في الشرع مثل (عبد الله) ابن عمر في أخذه بها، و(عبد الله) ابن عباس الذي كان يأخذ بالرخص، فما ضاقت الأمة برخص ابن عباس ولا بعزائم ابن عمر، أي أنها لم تعتبر رخص عبد الله بن عباس تمييعاً، ولا اعتبرت عزيمة عبد الله بن عمر تنطعاً، لأن كلا الفعلين يدوران في دائرة المأذون به شرعاً.. فالغلو هو الزيادة عن الحد المعروف، وهو يعرف بالنصوص وبالقواعد العامة.
ولنعط أمثلة عملية. الرسول صلى الله عليه وسلم وجد زينب رضي الله عنها تشد نفسها بحبل على سارية في المسجد، كلما نعست شدها ذلك الحبل فجذبها فاستيقظت للصلاة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “مه، عليكم بما تطيقون. فوالله لا يمل الله حتى تملوا، فعلمنا أن هذا الفعل يعتبر تنطعاً، فالمطلوب منك حين تأتي الصلاة أن تكون حاضراً، وبقلبك خاشعاً، ومع مثل ذلك السلوك لن يتحقق الخشوع إذ تقوم كسلان (فتران) لا تتحقق لك الطمأنينة والسكينة في الصلاة.
مثال ثانٍ؛ امتنع بعضهم عن الزواج، وامتنع بعضهم عن الشراب والطعام بالنهار، وامتنع بعضهم عن النوم ليلاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: “أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني”. فمن ذهب ليتبتل ويعتزل ويقول لا أتزوج النساء لأن هذا هو الدين، نقول له: إن ذلك غلو، لأنه خالف الحد المشروع عن النبي عليه الصلاة والسلام.
ومن أراد أن ينقطع ويصوم على سبيل الدوام ولا يفطر نقول له: خالفت المعهود عن النبي عليه الصلاة والسلام. وحين يأتي إنسان ويحرم الطيبات على نفسه نقول له: تركت المأذون به شرعاً. إذن لدينا مقاييس شرعية واردة في الكتاب والسنة ومحددات سقف أعلى وسقف أدنى، وتجاوز هذه السقوف يعرفه العلماء من خلال علم أصول الفقه، ومن خلال الفقه.
تاريخ الغلو والتطرف وجذوره
الأمر سيتضح بصورة أكبر حين نأتي للمرتكزات.. نحن لا نتحدث عن ظاهرة طارئة أو حادثة، بل عن ظاهرة قديمة في تاريخنا الإسلامي، تشير إليها هذه الأحاديث من النبي صلى الله عليه وسلم وكثير من السلوك الذي سلكه صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، مثل الصحابي الذي استفتاه في الغسل في الليلة الشاتية الباردة، مثل هذه النماذج تؤكد لنا أن الظاهرة ليست حديثة وإنما هي قديمة، فهل من وصل بين القديم والجديد؟ وهل نستطيع القول إن تيارات الغلو والتطرف الموجودة الآن في عالمنا الإسلامي تستقي من ذات النبع القديم؟
نعم، هنالك تشابه كبير في الأصل. التشابه الأول ورد بشكل جمعي في عهد الإمام علي، الذين عرفوا بظاهرة (الخوارج) وسموا بذلك لأنهم خرجوا على الإمام الشرعي وعلى سلطان الدولة. هؤلاء الخوارج صحت فيهم الأحاديث من عشرة أوجه، مع أنه كان لا ينقصهم الاجتهاد في العبادة حتى قال قائلهم:
قوم إذا ذكروا بالله أو ذكروا
خروا من الخوف للأذقان والركب
و”أتعيِّرونني بأصحابي وتزعمون أنهم شباب؟ وهل كان أصحاب رسول الله إلا شباباً ؟ شباب والله مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أنضاء عبادة وأطلاح سهر، قد نظر الله إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مر آحدهم بآية من ذكر الجنة بكى شوقاً إليها، وإذا مرَّ بآية من ذكر النار شهق شهقة كأنّ زفير جهنم بين أذنيه قد أكلت الأرض ركبهم وأنوفهم وجباههم، واستقلوا ذلك في جنب الله”.
ألا في الله لا في الناس شالت
بداود واخوته الجذوع
إذا ما الليل أظلم كابدوه
فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا
وأهل الأمن في الدنيا هجوع
لهم تحت الظلام وهم سجود
أنينٌ منه تنفرج الضلوع
كانت عبادتهم شديدة، وهذه مسألة مهمة، لأن بعض الناس قد يضلون حين يرون إنساناً متعبداً شديد العبادة، فيرون التأسي به وإن كان غير عالم وغير فقيه وغير ذي بصر بالحكم الشرعي الصحيح، وكانوا أيضاً مجاهدين، ومع ذلك استحلوا دماء الصحابة؛ كفروا الصحابة، وخرجوا على أمة الإسلام، وقال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم “يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية”.