من باب الحماس الثوري يرفض البعض أي نقد يوجه لحكومة الدكتور “حمدوك”، من باب التنزيه الثوري لأول حكومة أنجبها رحم الثورة.. لكن بالضبط هذه هي بدايات كل الأنظمة الديكتاتورية.. وضع الأعذار والحجج التي تؤجل النقد والمراجعة، فتكون النتيجة تنامي الاحساس لدى القيادة بقداسة وضعهم وبأنهم فوق النقد.. وعندما يلتفت اليهم الضمير الشعبي وينتبه لا يجد أكثر من أن يغني (فات الأوان)..
الآن الدكتور عبد الله حمدوك يتسلم زمام الحكم مسنودا بشرعية جماهيرية كاسحة، أقوى من أي صندوق انتخابات أتى بأي رئيس في تاريخ السودان الحديث.. لكن نجاح “حمدوك” في مهامه رهن بقدرته على استلهام عبر الماضي السحيق التي أوقعت النظم المختلفة في مستنقع الفشل، وأول خطوة نحو النجاح تبدأ بـ(الشفافية) التي تجعل الحكام في الهواء الطلق أمام شعبهم محاسبون على كل صغيرة وكبيرة وأولا بأول..
قبل أيام قلائل وزير الشؤون الدينية والأوقاف مولانا نصرالدين مفرح ، وعلى شاشة قناة “العربية” وجه دعوة لليهود الذين غادروا السودان للعودة.. وبعيدا عن الحكمة في هذه الدعوة الا أنها تكشف ومن أول يوم غياب ادراك حدود التفويض الوزاري لكل وزير.. فمثل هذه الدعوة ليست شأنا (دينيا داخليا) بل من صميم مهام وملفات وزارة الخارجية، لأنها تخاطب سكان دولة أخرى، وطبعا المقصود بها اسرائيل، وبكل يقين لا يمكن حتى لوزارة الخارجية أن توجه مثل هذه الدعوة قبل تصميم (السياسة الخارجية) للسودان ثم دراسة تأثير الدعوة على علاقاتنا الاقليمية والدولية.. والمثير للدهشة أن الدعوة وجهت ليهود السودان قبل أن توجه للسودانيين (من اللحم والدم السوداني) الذي هاجروا مرغمين إلى اسرائيل بسبب سياسات النظام المخلوع..
طالما نحن في البداية، فمن الأفضل ومنذ أول صرخة ميلاد الحكومة الجديدة أن تدرك أن السياسات العامة تتخذ بواسطة مجلس الوزراء (وليس الوزراء).. وأن الخطاب العام للدولة ليس هبة البلاغة والفصاحة بل وفق ما تدرسه الدولة جيدا وتقرره وتدفع به الى الاعلام.
والوقت مبكر لمثل هذه التصريحات، فالوزراء لم يؤدوا اليمين الدستورية ويتسلموا مهاهم حتى الآن (يفترض أن يكتمل ذلك اليوم).. ومن السياسة والعلاقات الخارجية واحد من أعقد الملفات التي تتطلب غوصا عميقا في دراسة واستخلاص الحيثيات التي تبنى عليها.. وحتى هذه اللحظة السيدة وزيرة الخارجية أسماء محمد عبد الله لم تتعرف على طاقم مكتبها فضلا عن تصاريف وتفاصيل وزارتها.. فما العجلة الداعية لمثل هذه التصريحات!
على كل حال؛ حذرا من الوقوع في الأخطاء القاتلة مهمتنا في الصحافة أن ننبه ونطلق صفارة الانذار قبل وقت كاف من وقوع الخطر.