سودان.. فرن.. هايت
موجة حارة جداً ضربت البلاد الأيام الفائتة ..درجة الحرارة الرسمية (صفحة الارصاد) بلغت 45 درجة .. اما في السوق الموازي اعتقد انها فاقت الخمسين درجة مئوية ..اما بالفهرنهايت لا داعي لذكر الرقم لأننا فعلاً دخلنا (فرن) هايت ..تذكرت طرفة سمعتها عن الراحل ابراهيم دقش ..وكان يحكي عن اديس أبابا وطقسها المعتدل طوال العام ..قال ان السودان (واقع في ضهر المكيف) ..وما أدراك ما ضهر المكيف.. سموم ونار لا فحة طوال الوقت.
حانت لي الفرصة أخيراً لزيارة اثيوبيا ..وقضيت في اديس حوالي عشرة أيام ..رحلة عمل وبعض من السياحة والكثير من الفكر والتأمل ..صدقت فعلاً مقولة دقش .. ..خاصة عندما وجدت ان سكان اديس لا يعرفون المكيف ولا المروحة ..تكييف رباني ..طبيعي …والخضرة مد البصر ..حينها تحسرت على حظي التعيس الهردبيس ..وبلادي التي كان نصيبها ضهر المكيف ..
ابن خلدون في مقدمته الشهيرة.. قال ان البيئة تؤثر على الانسان تأثيراً كبيراً ..وان أهل البيئات الحارة غالباً ما يميلون الى الطرب والطيش وان الحرارة تنعكس في طبعهم ..عاد يا ابن خلدون ما خليت لينا شئ ..من ناحية الطرب ..فالحمد لله (نفوق العالم أجمع) ..ومن ناحية الطيش ..تجدنا نسرع في الخطوة قبل ان نقدر موضعها ..وتشيلنا (الهاشمية ) في أقل شئ ..الله يرحمك يا ابن خلدون ..(ما بشرتنا نهائي ). ..أها اختكم تأملت في الوضع جيدا ..لاحظت ان الانسان الاثيوبي يعمل لساعات طويلة دون توقف ..مجتهد للغاية في عمله ..كل يجيد صنعته ..فتساءلت هل هي المنافسة ؟ ذلك ان تعدادهم كثير مثل اخوتنا المصاروة ..ربما ..لكني أذهب الى تحليل ابن خلدون أيضاً.. الاجواء المعتدلة ..لها لمسة السحر على الانسان .. فالحرارة العالية وسخونة الجو لا تؤثر فقط على الطبع ..انما اعتقد انها هي السبب الأساسي لعدم الاتقان ..نبدأ الشئ ..ونتوقف بعد قطع ثلاثة ارباع المهمة ..لا نكمل الطريق للنهاية ..لا صبر لدينا حتى اللحظات الاخيرة …حتى في الرياضة ..أكثر هزائمنا تأتي في اللحظات الاخيرة .
الحر ..هو مأساتنا ..والدليل ان السوداني في الأجواء المعتدلة والظروف الجيدة ينتج ويتقن عمله ..وينال الاستحسان في كل مكان ..الغريبة اننا لم نفكر يوماً ما في معالجة مشكلة (ضهر المكيف ) هذه ..رغم ان حديث ابن خلدون مدون من قديم الزمان ..أسهل حل فعله البعض هو الهجرة ..(السمبكة) الى بلاد تموت من البرد حيتانها ..لكن هل سنهاجر جميعاً؟ ..هناك حلول بسيطة ..مثل لبس طاقية القش التي اشتهر اخوتنا الجنوبيون بلبسها ..طاقية تقيك حر الشمس خاصة ان كان عملك تحت أشعتها مباشرة ..تجد أحدهم يفرش بضاعته في السوق ..ويجلس بعيداً تحت الظل ..وربما أكمل بيعه معك من موقعه ذلك خوف الحر ..دعك من طاقية القش ..أحمل شمسية ..ربما يثير منظرك الضحك أول يوم ..لكن مع الأيام سيصير الأمر عادياً وربما كنت سبباً في احياء سنة حميدة ..
المعضلة الأكبر هي بيوت الاسمنت التي تزيدنا حراً على حر ..وناس الكهرباء (الله يجعل كلامنا خفيف عليهم ) كل يوم يدخلونا في فتيل.. في اثيوبيا وجدت أغلب المساكن من مواد بسيطة ..حتى انني دخلت مطاعم درجة أولى ..جدرانها مكون ..اخشاب وجذوع شجر .. وسقفها منسوج من السعف بطريقة جميلة ومتقنة جدا..لكنهم استفادوا من التطورات في التصريف ودورات المياه الحديثة ..لماذا لم نفكر في ذلك ؟ ..المحافظة على القديم الذي يناسب البيئة مع ادخال الحداثة حسب الحوجة ؟ ولا ننسى التشجير ..وما تفعله الخضرة في قلب موازين الحر ..وادخال السرور في قلب الانسان ..لكن هذه قصة أخرى.
من ناحيتي ..(نويت تب) على طاقية القش ..لكني لم أجدها حتى تاريخه ..لو استطعتم مساعدتي سأكون في غاية الامتنان ..وفي حالة خاب أملي .. فالحل هو بلان بي.. .فاذا رأيتم امرأة تحمل شمسية وتتمشى في دياركم العامرة ..فاعلموا انها انسانة عانت الامرين ..انقطاع الكهرباء ..وحرارة ضهر المكيف.